بين التدهور المعيشي والأزمات مهاجرون على متن الموت
منذ 10 أيام تقريباً، أوقف جهاز الأمن العام اللبناني شبكة لتهريب مهاجرين غير شرعيين إلى أوروبا عبر مطار رفيق الحريري الدولي. جرى التوقيف بعد لجوء 27 شخصاً من الفلسطينيين واللبنانيين إلى إسبانيا، أثناء عبورهم مدريد في طريقهم المفترضة إلى الإكوادور.
في التحقيقات اللاحقة، تبيّن أن أفراداً من الشبكة “يعملون في مراكز مختلفة في مطار بيروت الدولي”.
قبل ذلك، أوقفت السلطات القبرصية بمؤازرة لبنانية 5 قوارب، تحمل أكثر من 150 مهاجراً سورياً ولبنانياً، بينهم نساء وأطفال.
وقبل أسابيع، رصدت القوات الدولية في جنوب لبنان إبحار قارب بطريقة غير شرعية، على متنه 36 شخصاً، منهم 25 سورياً و8 لبنانيين و3 من جنسيات أخرى، ما أدّى إلى موت البعض، واختفاء أثر آخرين في البحر، بينهم أطفال.في خلال تحقيقات الجنوب، تبيّن أنّ أشخاصاً من جنسيّات غير لبنانيّة لهم دور أساس في الاستحصال على الأوراق المطلوبة للسفر وفي رسم خطوط رحلة الهجرة!
وقد علّق الرئيس اللبناني ميشال عون على ظاهرة الهجرة المستجدّة، بالدعوة إلى معالجة مسألة مغادرة أشخاصٍ الأراضي اللبنانية عبر البحر بطريقة غير شرعية من زاويتين أمنية وإنسانية.
فما سبب انطلاق أفواج المهاجرين غير الشرعيين في هذا التوقيت؟
خطاب الخيبة بعد 4 آب حفّز الهجرة
قد تكون الأوضاع الاقتصادية سبباً في هجرة الكثير من الناس باتجاه أوروبا، وقد تكون الأوضاع الاجتماعية للاجئين العرب في لبنان سبباً لهجرة جديدة أيضاً، لكن أسباباً نفسيّة وسياسية تقف وراء قرار الهجرة أيضاً.
يؤدّي خطاب النقمة لدى كثيرٍ من الناشطين والثائرين، عن غير قصد أو جهلٍ إلى تشجيع الناس على الهجرة، وإلى تحفيزهم سلبياً، في معرض إبداء الغضب والحزن؛ فهؤلاء يصوغون خطاب الهجرة على أسسٍ من التشفّي بجموع الشعب اللبناني والنكاية لهم، لكأنّ الفقر و”جهنم” قد تسبّب بهما أبناء الوطن – الأعداء، والحلّ في مغادرة الوطن!
في الوقت عينه، يشكّل المهاجرون في لبنان مجتمعهم المؤقّت، ويُطلقون مشاريع خلاصهم، بعد أن يستوطنوا البلاد عبر مسارب عديدة؛ هم سوريون وفلسطينيون وعراقيون…فلبنانيون وغير ذلك. إنّهم من الجنسيّات التي يُمكنها اختراق الحدود اللبنانية، شرعاً أو تجاوزاً، قبل أن يُيمّموا وجوهم شطر الغرب وأوروبا، عبر منصّات انطلاق تمتدّ على الساحل اللبناني، في العبدة والمنية والقلمون والحريشة شمالاً، وصولاً إلى صيدا والصرفند وصور جنوباً، حيث المساحات تتميّز بقلّة سكّانها وضعف الرقابة فيها وسهولة الإبحار منها، على الرغم ممّا يتربّص بهم من أخطار وموت.
بحر لبنان بديل لـ”طريق البلقان”
كتبت خديجة المعوش في “المفكرة القانونية”: “كانت طريق الهجرة إلى أوروبا تمرّ عبر تركيا فاليونان؛ اليوم باتت قبرص جسر العبور. ووفقاً لوزارة الداخلية القبرصية، فإنّه منذ أُغلق في 2015 “طريق البلقان”… من تركيا إلى وسط أوروبا، ارتفعت طلبات اللجوء في قبرص من 2.253 طلباً في 2015 إلى 13.648 في 2019”.
قبرص التي ترتبط ولبنان باتفاقية تنصّ على “إعادة إرسال” المهاجرين الاقتصاديين غير الشرعيين إلى البلد الذي انطلقوا منه، كثّفت اتصالاتها بالجانب اللبناني للتشدّد في منع الظاهرة.
قصير: إشارات ترحيب أوروبية بالمهاجرين
في هذا الإطار، يرى الصحافي قاسم قصير (مختصّ في الحوار والجماعات الإسلامية) في حديث لـ “أحوال” أنّ “ارتفاع وتيرة الهجرة مرتبطٌ بتدهور الأوضاع المختلفة في لبنان”، ويشدّد على أنّ “الوضع السياسي السّيّء، وفشل الحراك الشعبي والضغوط المعيشية زادت من الاندفاع نحو الهجرة”.
لكن قصير لفت إلى “دور أوروبيّ يُساعد أحياناً على الاندفاع نحو الهجرة من خلال ترتيبات معيّنة، أو عبر إطلاق مؤشرات ترحّب بالمهاجرين، خصوصاً إذا كانوا فلسطينيين”.
وفي المجال الأمني، يرى قصير أنّ “ضبط الشواطئ أمرٌ ممكن، على الرغم من الخروقات المحتملة”. وأضاف: “عمدت السلطات اللبنانية مؤخراً لرفع فعالية الأجهزة الأمنية والعسكرية لضبط الشواطئ، وتمّ ضبط العديد من محاولات الهجرة مؤخراً”.
فاعور: المجتمعات المحليّة مثقلة بالنازحين
من جانبه، يرى الدكتور علي فاعور (أستاذ جامعي وخبير في شؤون السكّان والهجرة) أن “انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 زاد من يأس وإحباط الشباب اللبناني المطالب بالتغيير، خصوصاً بعد الاحتجاجات الشعبية، التي انطلقت في 17 تشرين الأول 2019”.
وإذ يُعيد فاعور التذكير بطيف اللاجئين العرب إلى لبنان منذ عام 1948، يرى في حديثه لـ “أحوال.ميديا” أنّ “المجتمعات المُضيفة قد فقدت قدرتها على التحمّل، في ظلّ تقاعس المجتمع الدولي عن مدّ العون لها”، ليؤكّد أن “الهجرة في المتوسط لا تقتصر على اللبنانيين أو الفلسطينيين والسوريين بل تشمل كثيراً من الآسيويين والأفارقة المتّجهين إلى أوروبا، حيث أصبح البحر الأبيض المتوسط معروفاً بمقبرة اللاجئين”.
ويلحظ فاعور تفشّي البطالة في لبنان، ويعتبر “الهجرة سياقاً طبيعياً” إلا أنّه يتوقّف عند الهجرة غير الشرعيّة، ويقول إنّ “الجديد فيها هو مشاركة اللبنانيين في هجرة القوارب”.
ولدى سؤاله عن محاكاة لبنان المحتملة للتجربة التركية على المستوى السياسي، ينفي فاعور إمكانية قيام “لبنان باستخدام الهجرة غير الشرعية كسياسة في العلاقة مع أوروربا، لأنه بحاجة إلى الدعم والمساعدات الأوروبية، وهو حريص على ذلك”.
سليم: للهجرة دور حاكم في مستقبل البلد
من جانب آخر، يدعو الباحث لقمان سليم (رئيس مؤسسة “أمم للأبحاث والتوثيق”) في حديث لـ “أحوال” إلى التصدي لملف الهجرة حيث “أوّل ما يفترض أن يتنبّه الواحدُ منّا إلى أنّ وقائع الأسابيع الماضية ليست أول القصة – قصة الهجرة غير الشرعية من لبنان – بل حلقة في سلسلة بدأت لسنوات طويلة خلت، وأن يتنبّه إلى أن الهجرة بحراً ليست سوى أحد أشكال الهجرة غير الشرعية، حيث أنّ لهذا هذا النوع من الهجرة طرقاً ومسالك لا تعدّ ولا تحصى”.
ولا يتوقّف سليم كثيراً عند الإجراءات الميدانيّة في ضبط أفواج المهاجرين، ويتوقّع أن: “تفلح التدابير الأمنية المحليّة، وقد يفلح التعاون بين الأجهزة المحليّة والخارجيّة في الحدّ بعض الشيء من الهجرة”، بل يشدّد على المطالبة بمعالجة سياسية، ويقول: “طالما أنّ هذه البلاد – ولا أعني لبنان فقط بل كل دول الجوار التي يمكن الوصول منها إلى لبنان – لا تتأهل بساكنيها، ولا توفّر لهم الحدّ الأدنى من شروط الكرامة البشريّة، فليس لنا إلا أن نتوقّع المزيد من الأمر نفسه، أعني المزيد من محاولات «الفرار» منها، أي ما نسمّيه الهجرة غير الشرعية”.
ويُحذّر سليم من آثار الهجرة على لبنان بالقول: “منذ سنوات تتابع مؤسستنا، «أمم للتوثيق والأبحاث»، ملفي اللجوء والهجرة. وبناءً على هذه المتابعة الحثيثة، لا أرى مبالغة في القول إن ملفّ الهجرة من لبنان، سواء بشكل شرعي أم غير شرعي، واللجوء إليه، هو أحد الملفات التي سوف يكون لها دور حاكم على مستقبل هذا البلد، أمناً ونظاماً سياسيّاً، سواء بسواء”.
ودعا سليم باسم مؤسسته «أمم للتوثيق والأبحاث» إلى “مقاربة هذا الملف مقاربة واقعية، تُدير ظهرها لمنطق المجاملات المتبادلة ولمنطق الإنكار والتأجيل”.
وختم بالقول: “بطبيعة الحال، هذه المقاربة مؤلمة، ولربما جارحة، ولكن التمسك بالمعالجات الأمنية، والمضي قدمًا في التسويف والتأجيل لن يكون من شأنه سوى المزيد من الهجرة الشرعية أو غير الشرعية”.
درب الهجرة ومسيرة الألم
لا شكّ في أن درب الهجرة صعب ومؤلم، على الرغم من احتمالاته الكثيرة، إذا كان شرعياً وملبيّاً لمتطلبات القوانين المحليّة والدوليّة، لكنّه سيكون قاتلاً حينما يكون محفوفاً بالأعداء المتربّصين: الفاقة والوقت والمسافة والموت.
طارق قبلان