
تشهد سوريا تحولاً جذرياً في بنيتها السياسية والعسكرية بعد إعلان الاعتراف الدولي، أو بالأحرى التسليم الواقعي، بسيطرة “هيئة تحرير الشام” على مفاصل الدولة في دمشق، وما يُعرف حالياً بـ”نظام الشرع”. هذه السلطة الجديدة، التي انبثقت من قلب النزاع السوري كقوة ذات طابع إسلامي متشدد في بداياتها، وجدت نفسها فجأة في موقع تمثيل الدولة السورية أمام العالم، مدعومة بمبادرة سعودية – أميركية تهدف إلى التوصل إلى تسوية سياسية شاملة، تبدأ من معالجة أزمة الأقليات. غير أن هذا التطور، الذي قد يبدو للبعض فرصة لإعادة بناء الدولة السورية على أسس جديدة، يُنظر إليه في مناطق الأقليات، وبالأخص في الجبل الدرزي جنوب البلاد، بقدر كبير من القلق وربما التوجس.
طائفة الموحدين الدروز في سوريا، التي لطالما التزمت نهج الحياد المتوازن خلال سنوات الحرب، تجد نفسها اليوم أمام معادلة لا تشبه أي شيء عرفته من قبل. لقد استطاع الموحدين الدروز الحفاظ على مناطقهم نسبياً بعيداً عن فوضى المعارك المباشرة، بفضل قوة اجتماعية داخلية وتوازنات عشائرية – دينية دقيقة، وأحياناً بفضل تفاهمات غير معلنة مع أطراف النزاع. لكن الاعتراف بشرعية سلطة تقودها هيئة ذات أيديولوجية إسلامية متشددة سابقاً، حتى وإن أعلنت تحولها إلى كيان سياسي – أمني عقلاني، يُشكّل تهديداً فعلياً لبنية المجتمع الدرزي الذي يعتمد على استقلاله النسبي وعلى نموذج من الإدارة الذاتية والخصوصية الدينية التي كفلها له النظام السوري لعقود.
من هنا، تبدو المبادرة السعودية – الأميركية وكأنها محاولة لإدماج الأقليات، لا بوصفهم شركاء متساوين، بل كأطراف ثانوية يُفترض بها القبول بالأمر الواقع الجديد مقابل وعود بالسلام والتمثيل. غير أن هذا الطرح يصطدم بجدار من عدم الثقة، خصوصاً عند الدروز الذين لم ينسوا بعد تجارب التهميش والتجاهل من جميع أطراف النزاع. إن ما يُخيفهم اليوم ليس فقط طبيعة “الشرع الجديد”، بل الصيغة التي تُطرح بها المصالحة: مصالحة تتطلب من الأقليات القبول بسلطة الأمر الواقع مقابل تعهدات غير مضمونة، في ظل تغييب واضح لأي مشاركة فعلية لهم في صناعة المرحلة الجديدة.
القلق الدرزي يتجاوز حدود المطالب السياسية؛ إنه قلق وجودي متعلق بالهوية والثقافة والحريات الدينية. فهل ستضمن السلطة الجديدة، فعلاً، حيادية الدولة في ما يخص الانتماءات الدينية والمذهبية؟ هل سيُسمح للموحدين الدروز بإدارة شؤونهم الدينية، والاحتفاظ بهويتهم الثقافية في ظل سلطة غالبية عناصرها ينهلون من فكر مغاير كلياً؟ أم أن الأمر سيتحوّل تدريجياً إلى محاولة صهر ناعم لهذه الطائفة ضمن منظومة مركزية إسلامية الطابع؟
من الناحية العملية، لا يبدو أن الجبل الدرزي – الذي ظل عصياً على الخضوع المباشر طوال سنوات الحرب – مستعد للتنازل عن استقلاله الذاتي بسهولة، كما لا يبدو أن “نظام الشرع” مستعد لتقبل كيانات متمردة على سلطته داخل الدولة. من هنا قد ينشأ شكل جديد من التوتر: صراع غير معلن بين نموذج يريد أن يفرض وحدة سياسية بالقوة، وآخر يريد أن يحافظ على تميّزه وهويته من دون الدخول في مواجهة مفتوحة.
في هذا السياق، تبدو المبادرة السعودية – الأميركية مطالبة بأن تقدم ما هو أكثر من مجرد هندسة سياسية سريعة. يجب أن تطرح ضمانات حقيقية وملزمة لحقوق الأقليات، وليس فقط تطمينات لفظية. الدروز، تحديداً، يحتاجون إلى رؤية واضحة لمستقبلهم في سوريا الجديدة: ما موقعهم في الدولة؟ ما حدود استقلالهم الثقافي والديني؟ ما الضمانات التي تمنع تحويلهم إلى رهائن في معادلة سياسية أكبر منهم؟
إن مستقبل الأقليات في سوريا، والموحدين الدروز على وجه الخصوص، بات مرهوناً بمدى قدرة المبادرة الدولية على فرض معايير مدنية تضمن التعددية، لا على أساس المحاصصة، بل على أساس الاعتراف الحقيقي بالتنوّع كقيمة مضافة للدولة. فإما أن تثمر هذه المبادرة عن سوريا تتسع لكل أبنائها، أو تنزلق إلى نموذج سلطوي جديد يرتدي قناعاً مختلفاً، لكنه يُعيد إنتاج الإقصاء تحت شعارات الوحدة.
ولذلك، فإن اللحظة الراهنة قد تكون الأكثر حساسية في تاريخ الموحدين الدروز الحديث في سوريا. إنهم يقفون على مفترق طرق: إما المشاركة بشروط تحفظ لهم كينونتهم وكرامتهم، أو الانكفاء في الجبل انتظاراً لموجة قادمة قد تكون أكثر قسوة. بين هذين الخيارين، تقف المبادرة الدولية كمفتاح أخير ربما لإنقاذ ما تبقى من نسيج وطني مهدد بالذوبان.