مجتمع

بين حرية التعبير والإساءة للأديان.. فروقاتٌ تحدّدها الأخلاق والوعي والمسؤولية!

هزّت قضية مقتل أستاذ التاريخ الفرنسي، “صامويل باتي”، على يد طالب “مسلم شيشاني”، الرأي العام الدولي والعربي، بعد أن عرض “باتي” صور كاريكاتيرية ساخرة، مُسيئة للنبي محمد، في أحد الحصص الدراسية.

هذا المشهد يُعيدنا بالذاكرة إلى حادثة تفجير مبنى صحيفة Charlie Hebdo في فرنسا، بعد أن نشرت الأخيرة رسومات كاريكاتيرية مُسيئة للنبي محمد أيضًا. فما الفرق بين حرية الرأي والتعبير، والقدح والذم والإساءة في الرسم الكاريكاتوري؟

الرسم الكاريكاتيري:

يُعتبَر “الكاريكاتير” فنّ ساخر من فنون الرسم ومن أهم طرق التعبير عن الرأي، كما له قدرة على النقد تفوق أحيانًا قدرة المقالات والتقارير الصحافية.

بدايات الكاريكاتير تعود إلى حوالي 5000 سنة، وتحديدًا في حقبة المصريين القُدامى الذين حفروا رسوماتهم “الهيروغرافية” الساخرة على المعابد والكهوف.

أمّا البداية الحقيقية للكاريكاتير، فكانت في إيطاليا، حيث تشتق كلمة “كاريكاتير” من الكلمة الإيطالية “كاريكير” والتي تعني المبالغة في تحميل أو إظهار خصائص شيء أو شخص ما بطريقة تُثير الضحك، بهدف السخرية أو النقد الاجتماعي والسياسي.

أول رسوم كاريكاتيرية مهمّة ظهرت في أوروبا خلال القرن السادس عشر، وكان معظمها يهاجم إما “البروتستانتيين” وإما الرومان الكاثوليك، خلال الثورة الدينية التي عُرفت بحركة “الإصلاح الديني”.

في هذا السياق، أشار الباحث والصحافي، د. ميشال مرقص، في حديث لـ”أحوال” إلى أنّ “مفهوم الحرية أصبح التفلّت”، متأسفًا لما آلت إليه أساليب التعبير عن الرأي في بلد مثل فرنسا، قال فيه أحد أهمّ كتاب ومفكري وفلاسفة عصر التنوير، وأوّل من تحدّث عن حرية الرأي والتعبير، جان جاك روسو: “تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية غيرك”.

مرقص أوضح أنّ الحدود التي تحدّث عنها “روسو” ليست مادّية، بل هي حدود فكرية فلسفية قومية دينية، يتوجّب احترامها وبالتالي احترام معتقدات الآخر وأفكاره وفلسفته، وعدم تحقيرها أو ازدرائها أو الإساءة إليها كما حدث ويحدث في فرنسا، لافتًا إلى أنه عندما يسخر الرسام من النبي محمد مثلًا، فهو لا ينتقده وحسب، بل يسيء لفئة كبيرة من الأشخاص المؤمنين الذين يتبنّون معتقدات فلسفية معيّنة، وبالتالي فهذه السخرية خالية من العقل والمنطق.

من جهة أخرى، استنكر مرقص تصرّف كل من الأستاذ الفرنسي والطالب، قائلًا: “بالرغم من التصرّف المسيء الذي قام به الأستاذ، فلا شيء يبرّر ردّة فعل الطالب الوحشية”.

بدوره، شدّد رسام الكاريكاتير اللبناني، أرمان حمصي، في حديثه لموقعنا على أنّ الرسم الكاريكاتيري يجب أن يأتي بعد متابعة ودراسة وتقييم للوضع الذي نريد نقده، “فهذا الفن ليس نكتة”، بحسب قوله، “بل يجب أن يُبنى على تحليلٍ عقلاني ومعلومة، كما أنه يُستخدم لتسليط الضوء على ما نجده خطأ”.

وانطلاقًا من ذلك، رأى حمصي أنه يجب على الرسامين الكاريكاتيريين، مثل الصحافيين، أن يتحلّوا بالثقافة والوعي والمسؤولية، معتبرًا أن بعض الصحف مثل Charlie Hebdo الفرنسية و”يولاندس بوستن” الدنماركية، لا تدرك ماذا تفعل، فبالنسبة لها الحرية مطلقة، وبالتالي فهي تهدف من خلال أعمالها هذه إلى إثارة النعرات في المجتمعات، بعيدًا عن أي قيمة فنيّة، كونها خالية من الفكر والمضمون ولا يمكن تصنيفها كفنّ أو رسم، وتؤكّد أن أصحابها غير مسؤولين ويقصدون الإساءة للآخر. لذلك، وبحسب حمصي، إن احترام الآخر والتحلّي بالمسؤولية والوعي والأخلاق، تًعتبر ركائز الحريات التي إذا فُقدت ستكون كافة المجتمعات أمام مشكلة حقيقية.

من هنا، أكد حمصي لـ”أحوال” أن هناك مسؤوليات عديدة تقع على عاتق الرسام الكاريكاتيري، أولها احترام عقل القارئ، لافتًا إلى أن الفرق بين الصور الساخرة والنكت والرسم الصحافي، هو أنّ الهدف من الأولى إضحاك المشاهد، أمّا الرسم الكاريكاتيري المخصّص لصحيفة معيّنة، فيهدف إلى النقد البنّاء، على أن يكون مبني على براهين ومعطيات كافية لإقناع المتلقّي لهذه الرسومات. وتابع حمصي: “أمّا الأشخاص الذين يرسمون “شو ما كان”، فلا يملكون حسّ المسؤولية ولا الوعي الكافي، وبالتالي عملهم يصبح نكتة”.

إذًا، بين الإرهاب الفكري والإرهاب الجسدي، يبقى الرهان على وعي أصبح شبه مفقود، وقيم وأخلاق بدأت تنقرض تحت شعارات الانفتاح والحريات!

باولا عطية

باولا عطية

كاتبة وصحافية لبنانية. تحمل شهادة الماجستير في الإعلام الاقتصادي والتنموي والإجازة في العلوم السياسية والإدارية من الجامعة اللبنانية. والإجازة في الصحافة والتواصل من جامعة الروح القدس الكسليك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى