لبنان: القرارات السياسية في قبضة التحوّلات الديموغرافية
قام النظام السياسي في لبنان على أساس طائفي تعدّدي وتوافقي بين أبنائه، وشكّلت الديمقراطية التوافقية واحدة من أهم مرتكزاته. لهذا السبب تلعب الديموغرافيا دوراً مهمًا في تغيير هذا النظام أو مرتكزاته…
ولهذا السبب أيضاً، لا تُنجز أيّة من الاستحقاقات في موعدها، ولا تُعالج أزمة قبل بلوغها ذروتها، ولا تُحلّ قضايا فيما مشاكل الشعب اللبناني في العمق؛ إذ أنّ للحلول حسابات طائفية وتقسيمية أكثر منها وطنية.
ملفات مزمنة وإشكاليّات معلّقة، تعترمها المثالثة والمناصفة في السجالات السياسية التقسيمية على أسس طائفية، انطلاقًا من ملف التوطين وملف النازحين السوريين والتجنيس، وصولًا إلى التكليف والتأليف وتوزيع الحقائب الحكومية.
تاريخ لبنان الحديث
يعرض الأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية الدكتور روني خليل لـ “أحوال” وقائع وحقائق تاريخية مجرّدة، بعيدًا عن أي إنتماء سياسي أو مذهبي.
يلفت خليل إلى انطلاق تاريخ لبنان الحديث، حيث انحصرت شرائح المجتمع الأكثر عدداً حينها بين طبقتين في جبل لبنان؛ هم الدروز والموارنة. فكان الدروز الطبقة الإقطاعية، والقوة السياسية الأبرز في جبل لبنان، وكان المسيحيون، وبخاصة الموارنة منهم، أبناء طبقة فلاحية، عملوا في أرزاق وإقطاعات الطبقة الحاكمة. وبما أنّ المجتمع الزراعي يتطلب زيادة ديموغرافية، بدأ الموارنة بالتزايد، في حين تركّز نشاط الدروز في السياسة بشكل عام.
استمر الوضع حتى بدايات القرن ١٩، حين بدأت تتبدّد ملامح التغيير الديموغرافي، بالتزامن مع عمليات تنصّر لأمراء شهابيين. وفي حينها، لعبت الكنيسة المارونية دوراً كبيراً في تقوية نفوذها، مستفيدة من تحالفها مع الأمير بشير الثاني (١٧٨٨ – ١٨٤٠)، الذي وُلد سنّيًا، وأصبح درزيًا بهدف أن يتسلّم السلطة، وتنصّر أخيراً على المذهب الماروني، وتقرّب كثيراً من البطريرك يوسف حبيش آنذاك من أجل أن يُحكم قبضته جيداً.
انعكس هذا التحالف إيجاباً على الموارنة، حيث قاموا بتنمية الرهبنات. وباتت الإمارة الشهابية “مارونية”، بعد أن كانت درزية ردحًا من الزمن.
وبعد دحر الأمير بشير، بسبب تحالفه مع ابراهيم باشا بوجه السلطنة العثمانية، استحدث نظام “القائمقاميتين”، الذي كرّس الطائفية وقسّم الجبل إلى قسمين، قسم مسيحي وآخر درزي. هذا النظام التقسيمي الطائفي، كان الأوّل في تاريخ لبنان الحديث، وكان وليد النزاع الطائفي والخلاف على السلطة في العام 1841 وتجدّد في العام 1845.
النزاعات الطائفية
كرّت سبحة النزاعات الطائفية القائمة على التعددية مع مرور الزمن، من أجل الإمساك بالسلطة والحكم. ففي العام 1861 أيضاً، أولدت الفتنة نظام المتصرّفية، الذي كرّس أيضا الطائفية، من خلال مجلس الإدارة الذي عُيّن أعضاؤه وفق التقسيم المذهبي.
بعد هذه المرحلة التاريخية، كان الإنتداب الفرنسي، ولا يخفى عن أحد، الدعم والتأييد المسيحي له في مواقع عديدة، نتيجة للتحالف التاريخي والمصالح العديدة. فأتى النظام وقتها بصلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية، وعلى الرغم من أنّ الدستور لم يحدّد مذهبه، غير أنّ التقليد والأكثرية العددية حتّمت مارونيّته.
شهدت هذه الحقبة على نفور واعتراضات من قبل مذاهب أخرى؛ تجلّت مثلا في رفض بعض أبناء المذهب الأورثوذكسي والسنّي لنشأة لبنان الكبير. إذ اعتبر أهل السنّة بغالبيتهم، أنّ انخراطهم في دولة يكون المسيحي فيها أكثرية يبعدهم عن حلم الدولة العربية الكبرى. في حين لم يعترض الشيعة كثيرا، لكونهم لم يشكّلوا سابقاً قوة عددية في ظل السلطنة العثمانية أو حتى في ظل سوريا الكبرى. فكانت أفضل الحلول لهم، الانخراط في دولة لبنان الكبير، بحسب ما يشرح الدكتور روني خليل.
استمر الوضع على حاله حتى فترة الاستقلال، ولم يكن الوفاق الوطني إلّا اعترافًا رسميًّا بالمشكلة، إذ سيتخلّى بموجبه المسيحيون عن الغرب من جهة، والمسلمون عن فكرة الدولة العربية أو سوريا الكبرى من جهة ثانية.
مع اشتعال شرارة الحرب اللبنانية، تبلورت الصورة ونضج النزاع. إنّ الوجود الذي فرضه التهجير الفلسطيني، أجّج فتنة طائفية أكثر من كونها وطنية، لأنّ الخوف كان دائمًا من تزايد الآخر عدديّا على حساب الطبقة الحاكمة والعكس.
إلى ذلك، دمّرت الحرب اللبنانية “الديمقراطية التوافقية” في مجتمعنا التعددي، ولم تُطفئ نيران الحرب المدمّرة، إلّا بعد استحداث اتفاق الطائف، فأضعف فئة وأعطى صلاحيات لفئة أخرى.
خلال فترة الوجود السوري، تمّ إبعاد معظم القياديين ومقاطعة آخرين عن المشاركة في السياسة الداخلية. اقتصر آنذاك الحضور المسيحي في الحكم، على بعض المقرّبين من السلطة السورية، ما أضعف نفوذهم، هذا فضلا عن الهجرة التي أصابتهم بعد الحرب اللبنانية وبعد حرب الإلغاء.
ناهيك عن الاصطفافات الخارجية القائمة أيضاً على أساس مذهبي، والتي لها تأثيرها ومنذ زمن بعيد. ففي القرن ١٩ مثلا، حمت فرنسا الموارنة، في حين حمت بريطانيا الدروز، أمّا السلطنة العثمانية فقدمت الدعم للسنة، وروسيا للأورثوذكس، والنمسا للكاثوليك.
وما نعيشه اليوم برأي الدكتور روني خليل، هو في الحقيقة صراعاً على السلطة بوجه مذهبي غير مباشر. والدعوة إلى دولة مدنية، ليست سوى محاولة للتخلّص من هذا النظام القائم الذي برأيه من الصعب جداً دحره.
ناريمان شلالا