منوعات

 صرخة لإنقاذ الصنوبر “ذهب لبنان الأبيض” من مهب الحرائق

وحدها رائحة الدخان تشي بالكارثة، حتى وإن كنت بعيداً من ألسنة اللهب، فأنت في قلب المشهد؛ سيارات الإطفاء وصخب أبواقها، هدير الطوافات فوقك، ولفح النار البعيد يصلك مع رائحة الدخان وبعض الرماد، حتى لتتأكد أنّ المتن الأعلى ومناطق من عاليه والشوف الأعلى والأوسط في قلب العاصفة، ولكن عاصفة من لهب، فمن أي مِطلٍّ كان يتبدّى “وجه” الكارثة، بدءاً من وادي لامرتين وصولاً إلى الجرد الأعلى وتخوم جزين.

هذا ما عاشه المواطنون خلال اليومين الماضيين، أما وقد تراجعت الحرائق، فبدأ المواطنون ينظرون إلى ما خلفته من أضرار، ولا سيما في أشجار الصنوبر وما تنتج من “ذهب أبيض”، أي تلك الحبوب البيضاء الناجمة عن تفتح الأكواز وكسر الثمار الصلبة. يبدو أنّ “ذهب لبنان الأبيض” سيتراجع من حيث الإنتاج، وقد ضاع قسم منه في مهب الحرائق، فالموسم لم يُقطف بعد والثمار احترقت أو تضرّرت، ولا من ساهم ماضياً وراهناً بمد يد العون.

نقابة عمال ومزارعي الصنوبر

في هذا السياق، قال رئيس “نقابة عمال ومزارعي الصنوبر في لبنان” فخري المصري لـ “أحوال”: “تركزت الحرائق في نطاق بلدة رأس المتن، وهي الأكثر إنتاجاً للصنوبر في المتن الأعلى، وقد طاولت النيران المنطقة الجنوبية منها، أي مناطق: غبتة ودير صيّا وشميسة صعودا إلى دونس فالغوابة ودير الحرف، وقد احترق عدد غير قليل من أشجار الصنوبر”.

وأشار المصري إلى أنّ “هناك انخفاضاً في إنتاجية الصنوبر في لبنان، وثمة سببان، الأول ناجم عن الحرائق، والثاني غير منفصل عن تبعات تغير المناخ، ولا سيّما أشجار وأحراج الصنوبر الواقعة في مناطق دون الـ 800 متر ارتفاعاً عن سطح البحر، وقد تدنت إنتاجيتها إلى أقل من 20 بالمئة، بينما تلك الواقعة فوق الـ 800 متر فقد وصلت إنتاجيتها إلى 70 بالمئة، أي بتراجع وصل إلى نحو 30 بالمئة”، لافتاً إلى أنّه “وفقا لتقديرات النقابة فقد انخفض الإنتاج الكلي بحوالي 40 و50 بالمئة، ويساهم الثلج الذي لم نشاهده منذ سنوات في ري التربة المحيطة بأشجار الصنوبر بصورة مستمرة، وبسبب عدم تساقطه، فلم تشرب الشجرة ما يكفي وبالتالي قلت إنتاجيتها”.

لا حسيب ولا رقيب

وعن الحرائق، قال المصري: “مهما كانت أسبابها ومن يتسبب بها، فالكل يتملّص من المسؤولية، إذ لا حسيب ولا رقيب، فتتفلَّت الأمور، ولم يتم القبض على أي مفتعل للحرائق، علماّ أن معظمها ناجم عن بعض الأشخاص أثناء تقشيش أراضيهم، ومع الرياح تنتقل هذه النيران ولا يمكن السيطرة عليها، كما أنّه ضاعت (النخوة) بين أهل القرى، ففي الماضي كان الجميع يهب للمساعدة”.

وأضاف: “حالياً اقتصر الأمر على عناصر الدفاع المدني فحسب، وهؤلاء يفتقرون للعدة والعدد، بينما أعضاء النقابة وأصحاب الأراضي أو ضامنيها، وإلى أن يصلوا إلى مواقع الحرائق تكون قد امتدت والتهمت مساحات شاسعة”.

وتوقف المصري عند مشكلة متمثلة بوعورة المناطق، مشيراً إلى أنه “من الصعوبة بمكان الوصول إليها عبر الآليات لذا بدأ الإعتماد على الطوافات، وقد اقترحنا إنشاء بحيرة قريبة، كون الطوافة تضطر للذهاب للبحر لتحميل المياه، والعودة، وتكون النيران قد امتدت أكثر”.

صرخة لدعم الصنوبر

ولفت المصري إلى أنّ “معظم إنتاج الصنوبر يتم تصديره، لضعف الطلب المحلي بسبب غلاء سعره بالنسبة للدولار”، مشيراً إلى أنّ الطبقات الفقيرة والوسطى حُرمت منه، فسعر الكيلو (الأبيض) حالياً 50 دولارا، وقد يصل إلى 55 دولاراً، ويتم تصدير معظم الإنتاج إلى تركيا وفرنسا وإسبانيا ودول الخليج”.

وأطلق المصري صرخة لدعم هذا القطاع المنتج، وقال: “يتم دعم مزارعي التفاح والخضار والقمح والتبغ عند التعرّض للخسائر، أما قطاع الصنوبر فلم يدعمه المعنيون”، ودعا المصري البلديات “لتعيين نواطير لحماية هذه الأشجار من الحرائق ومن السارقين الذين يقومون بسرقة أملاك الغير، وحتى في هذا الشهر، علماً أن قطف الكروز (الثمار) يبدأ في تشرين الثاني (نوفمبر)”.

خوند: خسائر لا تعوض بسهولة

من جهته، أشار الخبير البيئي سامر خوند لـ “أحوال” إلى أنّ “الحرائق تهدد الصنوبريات خصوصاً إذا وصلت النيران إلى تاج الشجرة أي قبتها العليا، فتموت”، ورأى أنّ “الرياح تزيد من مخاطر الحرائق”، ولفت إلى أنّ خسائر الصنوبر لا تعوّض بسهولة، قائلاً: “إن احترقت أنواع الأشجار الأخرى تساهم الجذور بإعادة إنبات شجرة جديدة، أما شجرة الصنوبر فلا تنبت أبداً إلا من خلال البذور”، علماً أنّ شجرة الصنوبر حتى تصل مرحلة الإنتاج فهي تتطلب ما لا يقل عن خمس وعشرين سنة.

ودعا خوند إلى “ضرورة أن ينظف المزارعون أراضيهم والتقشيش والتشحيل (التقليم) الدائم وعدم استخدام النار للتخلص من المخلفات، لأنّه مع اشتداد الحر والرياح القوية لا يعود بالإمكان السيطرة على الحرائق”، لافتاً إلى أنّ “القانون يمنع إشعال النار ابتداء من تموز (يوليو) وحتى تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام”.

تهديدات عدة

وادي لامرتين مع بداية الحرائق. أنور ضو
وادي لامرتين مع بداية الحرائق.
أنور ضو

وثمة تهديدات عدة أثرت في إنتاجية الصنوبر، وبحسب خوند، فإنّ “إحدى الآفات هي Leptoglossus  ساهمت بتدني الإنتاج إلى حد كبير، إذ أن أكثر من 40 بالمئة من كَـرْز (ثمرة) الصنوبر نجده فارغاً، وللأسف فهذه الآفة لا علاقة لها بتغير المناخ، وقد انتشرت في كل حوض البحر الأبيض المتوسط، وعلاجها مكلف للغاية، إذ يتطلب رش مبيدات بكميات كبيرة”.

وعن استخدام المصائد في مكافحتها، أوضح خوند أنّ “عمل المصائد هو بوضع فيرومونات تجتذب الحشرات، وبالتالي نتأكد من وجودها، ولاستعمال هذه الطريقة في مكافحة هذه الحشرات، تصبح الكلفة عالية للغاية خصوصاً وأن أسعارها بالدولار، ومن جهة ثانية، وبالتنسيق مع المزارعين وقيادة الجيش يجري رش الأشجار بالمبيدات بعد التأكد من وجودها”.

وأكد خوند أنّ الضرر الأكبر طاول الأشجار في المناطق دون الـ 900 متر، حيث تساهم البرودة والرطوبة في التقليل من تأثير هذه الآفة”.

باتر ونيحا

وعن حرائق بلدة باتر في الشوف، أكد الخبير البيئي والزراعي مازن حلواني من بلدة مرستي المجاورة لـ “أحوال” أنّ “حوالي 500 شخصا بين متطوعين وعناصر الدفاع المدني تعاونوا على إطفاء النيران، إلا أنّها طالت مساحات كبيرة من الصنوبر البرّي Pinus brutia الذي يُعتبر مهماً في تلقيح الأشجار المثمرة Pinus pinea، أو أشجار الزيتون حيث تداعى الجميع لحمايتها، ولم تكن هناك الكثير من الأضرار على هذه الأشجار، ولكن لا تقدير كامل ونهائي حتى الآن”.

ودعا الحلواني إلى “التخفيف من حملات التشجير والتركيز على حملات الوقاية من الحرائق، بالتقشيش والتشحيل والتوعية لمنع أي استخدام للنيران خلال موسم الحرائق، ولا سيما مع ارتفاع مؤشر الحرائق”، وشدد على “إنشاء خلايا أزمات شبيهة بخلايا أزمة كورونا، للوقاية من الحرائق تشمل تدريب كوادر وتجهيزهم وتكون مؤهلة ليس لمكافحة الحرائق فحسب، بل لحماية الأحراج عبر تنظيم دورات وورش عمل توعوية لا سيما أعمال التقشيش والتشحيل والمراقبة، وتدريب الكوادر للحفاظ على سلامة الناس، مع المطالبة بإنصاف عناصر الدفاع المدني وتثبيتهم، والعمل على شق طرق تصل إلى أعماق الأحراج، لتصل آليات ومعدات الدفاع المدني لتتمكن من القيام بمهامها في إطفاء الحرائق”، لافتاً إلى أنّ “عملية تقشيش وتشحيل الأشجار ذات جدوى اقتصادية كبيرة، إذ عدا الوقاية من الحرائق، توفر كتلة حيوية يمكن معالجتها للحصول على سماد عضوي”.

وأضاف حلواني: “على الدولة إعادة النظر بقانون الرعي، فالرعي المنظم يساهم بحماية الغابات والمناطق الحرجية، وأدعو البلديات إلى تخصيص كوادر كنواطير، وعلى مدى الـ 24 ساعة للتحذير من الحرائق ومراقبة كل من يشعل النيران ومنعه”.

وأشار إلى أنّ “الحرائق في جباع ونيحا طاولت بين 5 و10 دونمات وقد طاولت أشجار سنديان ووزال وأشجار برية أخرى”.

 

رأس المتن

في المتن الأعلى، وعلى امتداد وادي لامرتين، كان الصنوبر المثمر والمعمّر عرضة لأضرار يصعب تقييم نتائجها سريعاً، لكنها ستكون كارثية مع احتراق مئات الأشجار، وهي تعتبرُ مصدرَ رزقٍ أساسيا للعائلات في المتن الأعلى، دون أن ننسى أن ثمة خسائر أيضا في جزين ومناطق في الشوف وعاليه، فضلا ًعن أنه وبحسب “نقابة عمال ومزارعي الصنوبر”، فإنّ ما لا يقلّ عن خمسة آلاف عائلة تعتاش من هذا القطاع في مختلف المناطق اللبنانية.

وقال المزارع وتاجر الصنوبر الشيخ ناجي غرز الدين من بلدة رأس المتن لـ “أحوال”: “الموسم هذا العام ماحل تماما، إذ أنّ الأشجار دون 1000 متر لن يتخطى حملها الـ 10 بالمئة، بينما الأعلى قد يصل إلى 70 بالمئة كحد ـقصى”، لافتاً إلى أن “الحرائق الأخيرة في خراج رأس المتن طاولت أكثر من 300 ألف متر مربع وقضت على حوالي 60 بالمئة من أشجارها وبينها 70 بالمئة من أشجار الصنوبر المثمرة”.

أنور عقل ضو

أنور عقل ضو

صحافي في جريدة "السفير" منذ العام 1984 إلى حين توقفها عن الصدور. عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية في لبنان والعالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى