منوعات

غاب “سراج الليل” ولبنان غارق في عتمة معرفية”بيولوجية”

“فقر” لبنان في ميدان الدراسات والأبحاث العلمية، هو أشدّ وأدهى من الفقر الذي يعيش اللبنانيون تبعاته اليوم وسط انهيار إقتصادي ومالي، مترافقاً مع الفساد منذ ثلاثة عقود ونيف؛ فهذا “الفقر” المعرفي مؤشر على ترهّل التعليم وعدم القدرة على مجاراة التقدم، في وقت ما تزال فيه الدولة شبه غائبة عن دعم البحث العلمي، ولولا التمويل من بعض المؤسسات الدولية لدراسات محلية في ميادين عدة، لكان لبنان اليوم يعيش في صحراء الجهل والتخلف، أو بمعنى اصطلاحي يواجه “عتمة” بيولوجية ومعرفية.

صُدمنا بالأمس عندما علمنا أن أحداً لم يعدّْ دراسة عن حشرة “سراج الليل” Fire Fly، وهي مصنَّفة علمياً كنوع من الخنافس، بالرغم من وجود خبراء وعلماء في  لبنان؛ لكن هؤلاء أقعدهم الإهمال عن أداء دورهم المفترض، ولولا اجتهادات شخصية لبعض الدارسين لما تمكّنا من جمع أية معلومات تفي بالحاجة في مقاربة هذه الحشرة التي تناقصت أعدادها، ما يهدّد النظم الإيكولوجية، خصوصاً وأنّ الأمر لا ينحصر في فقدان حشرة فحسب، ذلك أنّ ثمة تبعات خطيرة على التوازن البيئي وعلى المحيط الحيوي الذي يعيش الإنسان بين ظهرانيه.

 

التوازن الإيكولوجي

بحسب ما أفاد مواطنون من مناطق عدة في الجبل، فإنّ سراج الليل غاب عن سهرات اللبنانيين منذ أكثر من عشر سنوات، ينظرون إليه بعين الدهشة وهو يطلق أضواء مشعّة تضفي على الليل جمالاً، دون أن يعلموا أهميته البيئية ودوره في مساعدتهم على التخلّص من الحشرات الضارة بمزروعاتهم، فيما أشار مواطنون من شمال لبنان إلى أنّ أعداده تراجعت وأنّهم يطلقون عليه تسمية مغايرة “بصبوص الليل”.

فما هي أهمية “سراج الليل”؟ ما دوره ضمن حلقة التوازن الإيكولوجي؟ ما هي تبعات فقدانه وتراجع أعداده؟ وثمة أسئلة غيرها نُجيب عنها في سياق التحقيق، علّنا بذلك نعوّض غياب المعلومات وانعدام الدراسات والأبحاث، ونحفِّز أُولياء الأمر من قيّميين على وزارات ومراكز بحوث علمية، وتخصيص موازنات بالحد الأدنى لدراسة البيئة اللبنانية بسائر كائناتها ونظمها، ولتكن البداية من “سراج الليل” المحمَّل بذكريات الطفولة، يوم كنّا نراه في قرانا وحقولنا، قبل أن تتلاشى أعداده لأسباب عدة، منها التلوّث الكيميائي بالمبيدات والتلوّث الضوئي، فضلاً عن التمدّد العمراني.

 

سارة لويس

يوجد من “سراج الليل” نحو ألفين من أنواع مختلفة عالمياً، ووفقاً للباحثة في مجال الحشرات والمتخصصة في ذبابة الضوء Fire Fly (سراج الليل) سارة لويس Sara Lewis، فقد بهرتها أضواؤها في فناء منزلها الخلفي، ودأبت على دراسة هذه الحشرة لعقود ثلاثة مضت، وقالت لويس لصحيفة “الغارديان” البريطانية: “تأخرنا في جز العشب، وفجأة بدأت الحديقة من حولي تشعّ بمئات الأضواء، كان منظراً ساحراً، وعلمت بعد ذلك أنّها ذبابة الضوء”، مستدركة أنها “خنفساء”.

وتشغل لويس حاليا منصب أستاذة في علم البيئة التطورية والسلوكية evolutionary and behavioural ecology في جامعة Tufts University في مدينة Medford في ولاية ماساشوستس الأميركية، وقالت: “منذ ذلك الوقت، بدأت أضواء هذه اليراعيَّات تختفي من كثير الأماكن، بسبب عوامل عدة، وهذا ما لفت انتباهي وبدأت البحث عن الطرق للمحافظة عليها”.

وأجرت لويس مسحاً نشر في مجلة Bioscience  العلمية تناولت فيه التهديدات التي تتعرّض لها هذه الحشرات، مع بيانات من 49 خبيراً حول العالم، وتبين أنّ أهمها: تلّوث المياه، الأنواع الغازية وتغير المناخ، فقدان الموائل، التلوّث الضوئي، استخدام المبيدات، الجمع المفرط لهذه الحشرات (كما في اليابان التي تقيم مهرجانات لهذه الحشرات، وفي الصين حيث تُقدم كهدايا، وفي الولايات المتحدة الأميركية لاستخلاص مادة luciferase and luciferin التي تؤدي تفاعلاتها لإنتاج الضوء المميز؛ حيث كان يتم تجميع ثلاثة ملايين حشرة سنويا).

سارة لوير

وقالت الباحثة في علم الجينات التطورية evolutionary geneticist سارة لوير من جامعة بوكنيل Bucknell University في ولاية بنسلفانيا الأميركية لـ “الغارديان”: “(سراج الليل) موجود منذ عصر الديناصورات أي منذ حوالي 100 مليون عام، وينتمي إلى حشرات تسمى Lampyridae من رتبة “الخنفساء” Coleoptera مع أكثر من 2000 نوع انقسمت إلى قسمين، قسم منها استوطن الأميركيتين والقسم الآخر أوروبا وآسيا؛ وفي أوروبا تسمى بالديدان المضيئة، وبينما تسمى في أميركا (بقة البرق)، وكل هذه التسميات غير صحيحة فهذه الحشرات ليست ديداناً ولا نوعاً من البق، هي نوع من الخنافس”.

وبالنسبة لـ “الاتحاد الدولي لصون الطبيعة” IUCN، فلم يستحدث وحدة بحثية لمتابعة هذه الحشرات ومعرفة مدى تعرضها للإنقراض إلا في العام 2018.

 

صعب: أنواع عدة في لبنان

في لبنان، وبحسب المهندس الزراعي عبد الهادي صعب من مجموعة “درب عكار” يوجد أنواع عدة من يرقة بصبوص الليل، إلا أنّ أشهرها وأكثرها شيوعاً بين الأنواع الموثقة هي  Lampyris noctiluca، وقال لـ “أحوال”: “تشتهر هذه الحشرات بأنّها تشّع بضوء أخضر مصفّر تنير به ظلمة الليل بهدف جذب شريك للتزاوج”، لافتاً إلى أنّ أنثى هذا النوع لا تطير وهي تشبه اليرقة إلى حدٍّ بعيد، وتنتج هذا الضوء لجذب الذكور التي بعكسها تستطيع الطيران وتستطيع أيضاً إنتاج الضوء”.

وقال: “يرقة هذه الحشرة مفترسة تتغذّى بشكل أساسي على الحلزون والبزاق وبعض يرقات الحشرات الأصغر منها، حيث أنّها تفرز مادة سامة وانزيمات هضمية داخل جسد فريستها لقتلها، وتحويل أنسجتها إلى سائل يسهل امتصاصه”.

وأوضح صعب أنّ “بصبوص الليل يواجه، كمعظم الحشرات الأخرى، مخاطرعدّة ساهمت في خفض أعداده في معظم المناطق اللبنانية، فبالرغم من عدم وجود أية دراسات أو إحصائيات عن أعداده في بلادنا إلا أنّ مشاهدته أصبحت نادرة في بعض المناطق. من أهم المخاطر التي تواجهه: الاستخدام العشوائي للمبيدات الزراعية الحشرية، التلّوث على أنواعه، حرائق الغابات والتمدّد العمراني على حساب الغابات والمساحات الخضراء”.

مخايل: الحشرات مؤشرات بيئية

المهندس الزراعي وخبير الحشرات ومنسّق بعض المشاريع مع وحدة البيئة والتنمية المستدامة في الجامعة الأميركية في بيروت ESDU حنا مخايل، قال لـ “أحوال”:”تعتبر الحشرات مؤشرات بيئية Ecological Indicators لسلامة المنظومة البيئية”، لافتاً إلى أنّه “لدينا أنواعاً من الحشرات توجد في مناطق أخرى من العالم، مثلها مثل العديد من النباتات والحيوانات الفريدة التي يتميّز بها لبنان، لكن ليس ثمة دراسات كافية وشاملة لتوثيق هذا التنوع، بينما هناك تعديات عدة على البيئة، تُفقد النظم البيئية توازنها وتؤدي إلى انخفاض واختفاء وانقراض الأنواع”.

وتابع مخايل: “عوامل عدة أدّت إلى تضاؤل أعداد الحشرات ومنها (سراج الليل). ووفقاً للدراسات العلمية، فإنّ الاستخدام المفرط للمبيدات يشكلّ التهديد الأكبر لجميع الكائنات، ومنها الإنسان؛ فالمبيدات تتواجد في التربة والمياه وحتى في الفريسة التي تتغذّى عليها هذه الحشرات، كما أنّ حراثة الأرض التي تعتبر موائل ومواطن بيوض هذه الحشرات وديدانها أدت إلى تناقص أعدادها. كما ويشكّل التلوّث الضوئي، إلى ما يسمى بالإشارة الزائفة Faux Signal للذكور، فتتجه إلى ضوء ما، ظانة أنه أنثى، وترتطم بالأشياء وتنفق بدلا من إكمال دورة حياتها”.

أنور عقل ضو

أنور عقل ضو

صحافي في جريدة "السفير" منذ العام 1984 إلى حين توقفها عن الصدور. عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية في لبنان والعالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى