بعلبك بين العشائرية الحقيقية وسطوة السلاح المزيّفة
تفجّر الوضع الأسبوع الماضي في بعلبك التي تحوّلت إلى ساحة قتال تغتالها عروض عسكرية وتهديدات بالقتل، على إثر قتل الشاب محمد شمص_ أخذاً بالثأر، بحسب ما أعلن آل جعفر.
وأكدت مصادر “العشائر” لـ”أحوال” أنَّ المشكلة تعود إلى ما يقارب الثلاث سنوات عندما قُتل الشاب عيسى علي وجيه جعفر خلال إطلاق نارٍ في بعلبك، وقد تمت الصلحة بين العائلتين وقتها، بعد أن قامت عشيرة آل شمص بتسليم المتورطين إلى القوى الأمنية، إلى أن عاد التوتر بين العشيرتين يوم الأحد الماضي. ويعتبر آل شمص أنَّ عملية الثأر غير محقة كون الصلحة تمت منذ ثلاث سنوات “والشاب الذي قُتل لم يكن موجوداً في تبادل إطلاق النار وقتها، وهو فقط أخٌ لأحدهم”. ولضبط الوضع نفّذ الجيش ظُهر الأربعاء انتشاراً واسعاً بعد الاستنفارات المسلحة بين العائلتين التي استمرت ثلاثة أيام، بالتزامن مع اتصالات أحزاب المنطقة مع الطرفين لتهدئة الوضع.
غالباً ما يتم تأطير الأحداث في بعلبك تحت مُسمى العشائرية وعاداتها، ولكن هل هذا التأطير صحيح؟
بين العشائرية الحقيقة والمزيّفة… مبادىء واختلافات
أكّد الدكتور المتخصص في التاريخ والخبير في متابعة شؤون منطقة بعلبك وعائلاتها وعشائرها حسين حميه، في حديثٍ لـ “أحوال” أنَّ أغلب من يضعون أنفسهم اليوم تحت مظلة العشائرية ليسوا من أساس العشائر البعلبكية، وهم ظهروا مؤخراً على الساحة وبدأوا بفرض وجودهم بطريقةٍ خاطئة عبر تسمية أنفسهم بالعشائر، “بل ينحسر الدور التاريخي لهؤلاء إلى حدِ شبه معدوم.” وتابع حميه، كانوا يعيشون بالجرود ومنصرفون للزراعة ورعي الماشية، وكان بعضهم يقوم باعتداءات على بعلبك. ولتأكيد معلوماته، أشار حميه إلى كتاب مُرسل من والي سوريا عام ١٩١٣، يشتكي فيه الأهالي من تسلّط “هؤلاء الطفار والزعران وممارساتهم في بعلبك ومحيطها، مما يعيق أعمالهم ويفسدها.”
تشتهر العشائر بعاداتها الخاصة والجميلة جداً وفق حميه، وقد كتب عنها العديد من الرحّالة المشهورين الذين جابوا البلاد، مثل لويس لورتيه وإبن بطوطة والمتصوّف الكبير عبد الغني النابلسي الذي كتب مشاهداته في مخطوطة “حلّة الذهب الإبريز في رحلة بعلبك والبقاع العزيز”، وغيرهم الكثير من الرحالة الذين جالوا في البلاد بفروقات زمنية مختلفة. وقال حميه: العادات العشائرية كثيرة، منها الكرم وإيواء الضيف وإكرامه وبل المبالغة بإكرام الضيف، والنخوة ومساندة الضعيف وإغاثة الملهوف. وقد تجّلت هذه العادات في العديد من الأحداث التاريخية يذكر منها حميه:
-الحرب الأهلية: كان يهرع العديد من شبان العشائر إلى القرى المسيحية التي كانت تتعرّض للهجوم وينجدون العائلات ويؤمنون لهم الطريق السالكة إلى المناطق الآمنة.
الأسرى في العهد العثماني: أصدرت السلطنة العثمانية فرماناً خاصاً يُمنع فيه مرور أي أسير حرب أو سجين في مناطق عشيرة آل حميه مسرغلاً، لأنّه حسب عاداتهم وتقاليدهم وبحكم النخوة العربية يُوجب عليهم إجارته وفك قيده، لذلك كان الأسير أو السجين إمّا يُمرّر من طريق أخر أو بدون قيود على أراضي العشيرة.
التبادل والإقراض: كانت تعتمد العشائر على التبادل في البضائع فيما بينها،” يعني أعطيك بندورة تعطيني بطاطا مثلاً”، وأيضاً كانوا يقترضون من بعضهم. وهذا ليس فعلا إقراضاً، حيث كانوا مثلاً يطلبون مواداً غذائية من بعضهم من دون أن يكون هناك حاجة إلى ردّها.
الإشمال:عند مرور أحدٌ ما خلال الحصاد كانوا يقومون برفع يدهم الشمال ويقولون “شاملناك”، وعندها إمّا أن يساعدهم بالحصاد أو يجلب لهم الحلاوة أو القضامة أو أي مأكل يتشاركونه سوياً.
ولفت حميه إلى أنَّ العشائر كانت ترفض الفتن وتنبذها وكانت تميل أكثر إلى الصلح، الأمر الذي أتاح لهم منصباً في الدولة العثمانية يدعى “شيخ صلح”، وكان المفتن يُنبذ عشائرياً، كما السارق والكاذب.
أمّا عن عادة إطلاق النار، أشار حميه إلى أنَّ هدفها كان إيصال الخبر، وكانت تُستخدم بسبب التباعد الجغرافي وعدم توفر إتصالاتٍ وقتها، حيث كان يُطلق عدد معين من العيارات النارية إعلاناً عن وفاة وعددٌ معين آخر للإعلان عن فرح؛ وعندها يعلم الناس أنّ عليهم القيام بالواجب، أمّا اليوم فُيطلق الرصاص بشكلٍ عشوائي من أجل فريغ مكبوتات وعُقد دونية يشعر بها صاحبها.
الثأر من أكثر العادات التصاقاً بالعشائر، فما هي بنوده؟
لفت حميه أنَّ الثأر لم يكن يوماً بهذه الدموية، وكان هدفه الردع وليس القتل. فقد شاع مصطلحان بين العشائر “فيك ولا بالفرس” و “تلبيس العباءة”، الأول كان يُخيّر فيه القاتل بين حياته وفرسه، وإن اختار الفرس تُقتل فرسه وهو يمتطيها ويُعفى عنه. أمّا بالحالة الثانية، فقد كان القاتل يحمل كفنه بيديه ويُسلّم نفسه إلى عائلة المقتول، وأغلب الأحيان كان يُلّبس العباءة، حيث كانت تُوضع على كتفيه وُيطلق سراحه، وهذا يحمل معانِ كثيرة بحسب حميه.
” فلان لبس عباءة فلان” وهو نوع من الخضوع والضم وأنَّ هذا الشخص أصبح مشمولاً بعباءتنا. وأضاف المتابع لشؤون منطقة بعلبك أنَّ القتل بالثأر كان يأتي في آخر الفكر العشائري، وأهم شرطٍ فيه هو الاقتصاص من القاتل فقط، وكان يُعد جبناً كبيراً الاقتصاص من غيره، وبل حتى قتل القاتل أعزلاً أو غدراً يُعد جُبناً.
وأبدي حميه أسفه لحال بعلبك اليوم، لافتاً أنَّ المدينة كانت تتمتع بشبه استقلالٍ ذاتي في العهد المملوكي، وحتى في العهد العثماني كان لبعلبك خاصية كبيرة، وكانت تتبع إدارياً لولاية سوريا وتحديداً لواء الشام، وتُعتبر قضاءً من الصنف الأول على رأسه قائمقام وهيكلة ادارية كبيرة، لافتاً أنَّ إهمال الدولة هو ما أوصل بعلبك إلى وضعها الحالي، مناشدها أنَّ تتحمل مسؤولياتها تجاه هذه المنطقة المحرومة من أبسط حقوقها.
بدل أنَّ تستفيد الدولة من مقوّمات البقاع وأراضيه الكبيرة، التي بإمكانها أنّ تكون مركزاً زراعياً وصناعياً يدر الأموال الطائلة في بلدٍ أصبح على حافة الانهيار، تُهمله لتسطو فيه شريعة الغاب والبقاء للأقوى.