في مهب الورقة ….. بين الدولة والسلاح والدول

كتب كمال ملاعب
في لحظة سياسية دقيقة ومشحونة، تعود لغة الانقسام إلى المشهد اللبناني، وهذه المرة من بوابة ورقة المبعوث الأميركي توم براك ، التي وإن أُلبست ثوب التهدئة والضمانات، لا تخلو من حمّالة أوجه، وتفتح الباب مجدداً على أسئلة قديمة – جديدة: من يملك قرار الحرب والسلم؟ ولمن يجب أن يكون السلاح؟ وهل ما زال للبنان ترف الاختلاف على بديهيات الدولة في زمن انهيارها؟
ليس خافياً أن الورقة الأميركية، بما تحمله من دعوة صريحة لحصر السلاح بيد الدولة، ليست بريئة بالكامل. ولا داعي لنظريات المؤامرة حتى ندرك أن أي طرح دولي – أميركي تحديداً – لا ينفصل عن مصالح، تبدأ من أمن إسرائيل ولا تنتهي عند خطوط الطاقة والغاز في المتوسط. ومع ذلك، لا يمكن القفز فوق جوهر المشكلة اللبنانية، أي غياب مرجعية وطنية موحدة للسلاح، وتعدّد السلطات داخل كيان واحد.
نحن، كلبنانيين، لسنا بحاجة إلى ورقة خارجية لنعرف أن الدولة لا تُبنى بسلاحين. ولا بحاجة إلى وسطاء لندرك أن ما من دولة تنهض في ظل ازدواجية القرار. ولكننا أيضاً، لسنا على استعداد لنقع ضحية استغلال الخارج لانقسام الداخل، بحيث تتحول المبادئ السيادية إلى أدوات ضغط في بازار المصالح الكبرى.
لعل اللحظة تتطلب من الأفرقاء السياسيين، على اختلاف مواقعهم وخلفياتهم، أن يتخلّوا عن منطق التخوين والمزايدة. فمن يتمترس خلف “المقاومة”، عليه أن يعترف بأن الناس لم تعد قادرة على تحمّل كلفة الاستعصاء السياسي والاقتصادي. ومن يتخذ من “السيادة” شعاراً، عليه أن يثبت أنه لا يعني بها فقط التصفيق لمواقف خارجية تتقاطع ظرفياً مع أجندته، بل أن يكون مستعداً لحماية الوطن من كل تدخل، لا فقط من سلاح الداخل.
لا شك أن الورقة الأميركية قد تحمل في طياتها بنوداً قابلة للنقاش، وأخرى ملغومة. ولا شك أيضاً أن نقاشاً وطنياً جاداً حول مستقبل السلاح يجب أن يحصل. لكن هذا النقاش، كي يكون منتجاً، يجب أن ينطلق من قناعة واحدة: لا مستقبل للبنان خارج إطار الدولة، ولا دولة من دون عقد سياسي جديد يوازن بين متطلبات السيادة وضرورات الاستقرار.
جوهر الورقة واضح: الدعوة لحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، في مقابل ما يُقال إنه “ضمانات بعدم التصعيد” من الجانب الإسرائيلي، ووعود – غير مضمونة – باستقرار طويل المدى في الجنوب. قد يبدو الطرح، للوهلة الأولى، منطقيًا. فمن حيث المبدأ، لا خلاف على أن الدولة وحدها يجب أن تحتكر قرار الحرب والسلم. ولكن، هل الدولة القائمة اليوم في لبنان تملك فعلاً هذا القرار؟ وهل من يطرح الورقة يعترف أصلاً بأن إسرائيل لم تخرج بعد من الأراضي اللبنانية، لا سيّما من النقاط الخمس الحدودية التي احتلتها مؤخراً . الورقة التي حملها المبعوث الأميركي توم براك ، تحت عنوان التهدئة وتحصين الاستقرار، ليست مجرد مقترح تقني، بل بداية نقاش وجودي حول لبنان في مرحلة ما بعد الصراع الإقليمي ، وربما ، ما بعد صمت الخرائط .
لكن، ما الذي تغير فعليًا؟ لبنان الرسمي اتخذ خطوة جريئة – ولو متسرعة – بإصدار قرار حكومي يقضي بحصر السلاح
بيد الدولة. خطوة تلامس جوهر المسألة منذ اتفاق الطائف، لكنها تصطدم بحقيقة عمرها عقود: الدولة بلا قدرة تنفيذ ، والمقاومة بلا مظلة سياسية وشعبية جامعة .
حزب الله رفض القرار ، بحديّة وبرمزية واضحة، على اعتبار أن “السلاح ليس عبئًا بل ضمانة “، وأن الطروحات الدولية، سواء بيد براك أو غيره، لا تسعى لقيام دولة بقدر ما تسعى لإنهاء معادلة المقاومة والردع في وجه اسرائيل . وهنا، يكمن التحدي الحقيقي: كيف يمكن أن تنشأ دولة من دون حصرية القرار، ومن دون تحييد لبنان عن صراعات تُرسم خارجه؟ لكن بالمقابل، كيف تبقى المقاومة مقاومة إن تجاوزت حدود الشرعية وانزلقت نحو تعليق الوطن على حبل التوازنات الإيرانية .
في هذا الجو، جاءت زيارة عراقجي الى بيروت ، وكأنها رد إيراني غير مباشر على الورقة الأميركية والقرار الحكومي. الرسالة، لمن يريد أن يقرأ بتمعن، أوصلت فحواها: “أي مسّ بسلاح حزب الله وبموقع لبنان ضمن محور المقاومة لن يكون بلا كلفة”. لكنها أيضاً تُفصح عن قلق إيراني أعمق:
أوراق النفوذ تُعاد قراءتها في لبنان كما في دمشق . فـسوريا ما بعد الأسد لن تعود كما كانت ، لا في شكل النظام، ولا في توازناتها الداخلية. والمتغيرات هناك، تُصاغ بين موسكو وأنقرة وطهران، وربما تل أبيب. والأقليات – تلك التي شكّلت روح المشرق وتاريخه تُدفع نحو هامش التاريخ ، مرة بالخوف زمرة بالتهميش ومرة بالتكفير السياسي .
أما على الجانب الآخر من المسرح، إسرائيل تضغط من خلال براك وغيره لفرض منطقة منزوعة السلاح في الجنوبين اللبناني والسوري وعلى امتداد حدودها مع البلدين ، بذريعة “الأمن الوقائي”. لكن الواقع أن إسرائيل لا تطلب فقط نزع سلاح، بل تطلب نزع خيار، ونزع ذاكرة وتاريخ ، ونزع قدرة.
ومع ذلك، لا يمكن قراءة الورقة الأميركية خارج المتغير العربي.
ولأن الجغرافيا لا ترحم ، لا يمكن فصل ما يطرح على لبنان عمّا يحصل في سوريا، هناك حديث – لا احد يصرح به علناً – عن تفتيت ناعم ، يتسلل تحت غطاء الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو اللامركزية أو كما نشاهد حالياً من مطالب للإنفصال ، يهدد الأقليات بمزيد من العزلة ، ويمنح القوى الإقليمية مبرراً للبقاء والتدخل تحت عنوان حماية الأقليات .
ولبنان بحساسيته الطائفية لن يكون بعيداً عن هذه المتغيرات بل سيكون امتداداً لها ان لم يُحسن التحصن ويعزز الوحدة الداخلية ويرأب صدع الخلافات الحادة .
إذاً ، الأقليات المشرقية ليست فقط في خطر وجودي ، انما في خطر تحولها الى أدوات في لعبة الأمم ، فلإستنزاف المستمر لها من الموصل الى الحسكة والساحل الى السويداء ليس عرضياً ، بل جزء من مشروع افراغ الشرق من تنوّعه لإعادة تركيبه وفقاً لهويات تناسب خارطة المصالح لا خارطة التاريخ .
وهنا يبرز أيضاً الدور السعودي كعنصر متغير لا يمكن تجاهله . السعودية اليوم ليست كما كانت بالأمس . تتصرّف كدولة تعيد صياغة أولوياتها، لا من موقع المواجهة بل من موقع الاحتواء ، تحاور من تحت الطاولة، وتراقب ما فوقها بصمت لافت.
فالسعودية اليوم في انفتاحها الجديد تتقدم كراعٍ للاستقرار لكنها في الوقت نفسه ليست بعيدة عن مواكبة الورقة الأميركية .
في خضمّ كل ذلك، يقف اللبناني حائرًا بين دولتين: دولة معلّقة بقرارات مؤجلة، ودولة مسلّحة بخيارات لا تُناقش.
فهل يمكن لهذه الثنائية أن تستمر؟ هل المطلوب نزع سلاح حزب الله الآن، قبل ضمان الانسحاب من شبعا والنقاط الخمس؟ وهل يعقل أن نُطالب بـ”جيش واحد” بينما الطائرات الإسرائيلية لا تزال ترسم سماءنا كما تشاء؟
هنا، لا بد من الإعتراف بشيء من الواقعية الجنبلاطية :
لسنا في لحظة سيادية بامتياز، ولا في لحظة مقاومة مطلقة. نحن في لحظة مفاوضة معقدة، تحتاج إلى عقول باردة، لا خطابات خشبية ، أو تصاريح تخوينية أوتهديدات تهويلية بحرب أهلية ،
لا السلاح يمكن ان يُسحب بالقرار ، ولا الدولة تُبنى بالصراخ . في بلدٍ تعوّد أن يلتقط أنفاسه على شفير التسويات الكبرى، تلوح من جديد معادلة مربكة،
الحكمة اليوم أن نطرح سؤالاً واضحًا: ماذا يريد اللبنانيون فعلاً؟ أن يبنوا دولة؟ فليبدأوا بتفاهم داخلي حقيقي، على قاعدة لا غالب ولا مغلوب. أن يحموا المقاومة؟ فلتكن في إطار واضح، لا في مساحات رمادية تُستغل ضد الجميع. أن يعيشوا؟ فليعلموا أن أحدًا لن يمنحهم خارطة حياة، ما لم يرسموها بأيديهم، وبقلم لبناني خالص ، لا برسائل عراقجي، ولا بحبر براك وتطميناته واورتاغوس اليوم.
الوقت يطير والخرائط تُرسم والمكائد تُحاك ، واليوم أصبح “الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك” ، فلا مناص من الإسراع في العلاج دون تسرّع . فالجسم هزيل والعيش ضئيل والجراحة حاجة عاجلة انما بواسطة جراحين وطنيين مهرة .
وفي النهاية، لسنا في مواجهة بين المقاومة والدولة، بل أمام امتحان نكون فيه معاً في خندق لبنان، أو نُستهلك ” بالمفرّق ” في معارك لا نملك زمامها، ولا حتى خريطة طريقها ، لنستدعى بعدها مرغمين للجلوس معاً على طاولة غريبة في بلد غريب نوقّع اتفاق صلح غريب عجيب .
ربما، وكما قال الكاتب الأميركي وليم أبيس: “المطلوب ليس أن ننتصر، بل أن لا نسقط جميعًا دفعة واحدة”. وهذا، في لبنان وفي واقعنا اليوم ، أعظم الانتصارات وأنجع الخيارات .
وإلا ، على الدنيا السلام .