منوعات

رياض سلامة… صفحة تُطوى مع انتهاء الجمهورية الثانية                             

ارتبط اسم رياض سلامة كحاكم لمصرف لبنان منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وجيلان من الأجيال اللبنانية أبصرا النور تحت السماء اللبنانية، وتم تصميغ آذانهم أنّ حاكم المصرف هو المنقذ للّيرة والاقتصاد من براثن الإنهيار النقدي خلال الحرب الأهلية، بل الآمر- الناهي للوضع النقدي وبالتبعية لكل مرتكزات الاقتصاد الريعي اللبناني.

وتعاقب عدة رؤوساء جمهوريات وحكومات والعشرات من النواب والوزراء على الساحة السياسية اللبنانية، دون أي مسّ بصورة الحاكم الماسية خوفاً من اهتزازات نقدية، وعدم تخطّي خطوط حمراء رسمتها دول خارجية لامتداداتها اللبنانية، فأصبح في أذهان الساسة المتعاقبين بمثابة صخرة “الروشة” التي تتحطم عندها أمواج الأزمات.

رياض سلامة…. رجل الطائف الأول

وإذا كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري قد صنع الطائف، فإنّ رياض سلامة هو الرجل الأول فيه والدعامة الأولى له وللجمهورية اللبنانية الثانية. ولطالما تغنّى الشعراء ونُظمت القصائد في قدرة الحاكم الخارقة على تثبيت استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية لمدة تقارب الثلاثة عقود، وبناء جدار من المناعة لليرة اللبنانية تجعلها قادرة على مواجهة الاختلالات والمضاربات. حتى أصبح الحاكم والليرة مثل “الطرّة والنقشة” وجهان واحد لليرة اللبنانية خلال هذه الحقبة. ولكن عندما جاءت لحظة الحقيقة تبيّن وَهَن بيت عنكبوت استقرار الليرة وفشل النموذج في الحفاظ على استقرارها. والحقيقة التي لا تحتمل الشك أنّ رياض سلامة هو بيدق القلعة في لعبة الشطرنج اللبنانية الداخلية التي تتحكم بها الرأسمالية بكل أدواتها.

يمثّل حاكم مصرف لبنان السلطة النقدية للدولة العميقة في لبنان، ويمتلك صلاحيات واسعة اكتسبها من قانون النقد والتسليف ومن الممارسة الفعلية، مرتكزاً على نموذج اقتصادي لغي أي دور لأي سياسات مالية واقتصادية وبالتالي تعطيه هذه السلطات والصلاحيات للسياسة النقدية التي هو المسؤول عنها. فأبدع في رهن مقدرات الدولة ومواردها للطبقة الرأسمالية المتوحشة عمق الدولة العميقة من مصارف وكارتيلات وسياسيين وأجهزة.

 

هشاشة أسطورة المناعة النقدية

ولطالما تباهى الحاكم بأمره في حصانة الإمبراطورية المالية عبر احتياطي هائل من العملات الأجنية وصل إلى حدّ 44 مليار دولار في نهاية العام 2018، وفي هندسات مالية وفوائد مرتفعة إدّعى أنها خشبة الخلاص للاقتصاد اللبناني المتداعي. ولكن ما لبثت الخلية السرطانية- الاقتصاد الريعي الذي قام عليها اقتصاد الجمهورية الثانية- أن تكاثرت رويداً رويداً وتفشّت في جسمه الهزيل لتتفشى أوراماً خبيثة وتُعمل نهشاً فيه. وانكشفت هشاشة أسطورة ” المناعة النقدية” بعد حراكات 17 تشرين الثاني مع تعرّي حقيقة الطبقة السياسية الحاكمة على مرّ عقود، وما أعلنه الحاكم في مؤتمره الصحفي الشهير في نيسان المنصرم من توفّر ما يزيد عن 20 مليار دولار، وأكد فيه أنّ هذا الاحتياطي هو مخصص لاستمرار استيراد المحروقات والقمح والأدوية، حيث قال بالحرف الواحد: “مستمرون في التعميم الذي يموّل استيراد المحروقات والقمح والأدوية وهذا الموضوع يخدم اللبنانيين لأنّ الأسعار لا تتأثر في هذه القطاعات، والمصرف المركزي يمكنه القيام بها لأنه استباقياً من خلال الهندسات جمّعنا الدولارات للأيام العاطلة”. وأعلن أن “اقتصاد لبنان بحاجة إلى 16 مليار و200 مليون دولار ليستمر ويفيد الاقتصاد”. لنتفاجأ في منتصف آب أن المصرف المركزي راسل رئاسة الحكومة، إضافة إلى الوزارات المعنية، معلناً أن الاحتياطي لديه وصل إلى 19.8 مليار دولار، بينما الدعم يكلّف شهرياً ما يقارب 700 مليون دولار، بما يعني أنّ الاحتياطي سيصل خلال ثلاثة أشهر إلى نحو 17.5 مليار دولار، التي تمثّل الاحتياطي الإلزامي للمصارف في مصرف لبنان، وهي قانوناً أموال لا يمكن المسّ بها. وهذا ما أعلنه الحاكم نفسه بتاريخ 25 آب لصحيفة سعودية بالقول: ” إنّ المصرف المركزي لا يمكنه استخدام احتياطيه الإلزامي لتمويل التجارة بمجرد بلوغه الحد الأدنى”. فهل غاب عن الحاكم في نيسان المنصرم قضية الاحتياطي الإلزامي وهو الحائز على جوائز عالمية؟ ولماذا هذا التناقض في الموقف خلال مدة لا تتعدى الأربعة أشهر ومع أرقام الحتياطي التي لم تنخفض كثيراً؟

انعدام الشفافية في  أرقام مصرف لبنان

في البداية يظهر أنّ عملية الأرقام لدى الحاكم غير شفّافة أو علمية، بل هناك شكّ في صحتها، وهو في حالة تطويع مستمر للأرقام بحسب ما تقتضيه مصلحته ومصلحة الرأسمالية التي يمثّل. ويبدو أنّ الحاكم يقوم بعملية ابتزاز عندما شعر باقتراب سيف التدقيق الجنائي على رقبته مع دعوة كل من الورقة الإصلاحية الفرنسية وديفيد هيل إلى تطبيقه من أجل بدء إصلاحات حقيقة. وأصدر الحاكم في 27 آب أربعة تعاميم دفعة واحدة – وهي تعاميم فيها الكثير من الثغرات- في محاولة منه لتقديم أوراق اعتماده مجدداً على أنّه المخلّص للأزمة وإنتاج نفسه من جديد.

لقد غاب عن ذهن الحاكم أنّ الصيغة اللبنانية الحالية تنازع أنفاسها الأخيرة وهي في مرحلة سكرات الموت، فالبنيان اختلّ من أساسه ولن تنفع معه جميع محاولات الترقيع والترميم. ووفق قاعدة لكل دولة رجالها، فمن المؤكد أن الحاكم هو من رجالات دولة انتهى تاريخ صلاحيتها وقابليتها للحياة. والجمهورية الثالثة القادمة يجب أن تُبنى على أسس اقتصادية متينة، قوامها الاقتصاد الإنتاجي بحيث تتكامل فيه جميع السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية على أن لا يكون لشخص واحد سلطات مطلقة لوحده، أو أن يكون مركز الثقل والاستقطاب لمصالح الرأسمالية والكوربوقراطية.

أيمن عمر

أيمن عمر

كاتب وباحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية محاضر في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية له العديد من الأبحاث والمؤلفا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى