مجتمع

مؤسسة عامل: هذه إنجازاتنا خلال جائحة كورونا ونستعدّ للأسوأ

إنّ ولادة مؤسسة مدنية تطوُّعية في بلدٍ كلبنان، تتآكله النزاعات الطائفية، تعمل بعيداً عن القوى المهيمنة، ليس بالأمر الهيِّن؛ إنّها والحقُّ يقال سباحة عكس التيار. كامل مهنا، ابن بلدة الخيام الجنوبية، الطبيب الذي تعلّم، وتخرَّج في الجامعات الفرنسية، قبِل التحدِّي، واختار الأرض الصعبة ميداناً لتجربته، وتحقيق أحلامه، في بناء كرامة الإنسان.

“الهيئة الوطنية للعمل الشعبي” هو اسم المؤسسة التي بناها كامل مهنا، والتي عُرفت باسم “عامل”. كيف نجحت هذه المؤسسة؟ وكيف استمرّت؟ وما دورها في المعاناة الصعبة التي يعيشها لبنان اليوم؟ عن كل هذه الأمور  يتحدّث كامل مهنا  لـ “أحوال”.

مع انتشار وباء كورونا، ما هي الخطوات التي قمتم بها في حيال ذلك؟

مع بدء التحرُّكات المطلبية، في السابع عشر، من تشرين الأوّل، من العام الماضي، وجدت عامل نفسها في مواجهة مع أزمة اقتصادية واجتماعية مفتوحة. فقبل تاريخ السابع عشر من تشرين أوّل الماضي، كانت نسبة اللبنانيِّين، ممَّن هم تحت خط الفقر تبلغ ثلاثين بالمئة،  أمّا بعد هذا التاريخ فقد قفزت النسبة لتبلغ خمسين بالمئة، بينهم اثنان وعشرون بالمئة، في حالة فقر مدقع، وهنا كان لا بدَّ “لعامل” من التحرُّك للقيام بمسؤولياتها الوطنية، عبر توزيع الإعانات الغذائية، تحت شعار التضامن، وليس الشفقة. فبالنسبة لنا: إنّ قوة أيّ مؤسسة مدنية، واستمراريتها، ومدى فاعليّتها، مرهونٌ تحقُّقها بمدى ارتباطها بالناس، أو عبر امتدادها إلى القواعد الشعبية.

فيما يخص وباء كورونا قامت “عامل” على الفور بتجهيز مراكزها وعياداتها النقَّالة؛ لإجراء فحص الـ PCR للمواطنين، كما قامت بتجهيز غرفٍ للعزل، وذلك بالتعاون مع وزارة الصحة، ومنظمات الأمم المتحدة، والبلديات في المناطق. كما قامت “عامل” بوضع خمسين كادراً، من كواردها، بتصرف وزارة الصحة؛ لمواجهة وباء كورونا. كما أنّ هناك مندوبا لـ “عامل” يشارك يوميّاً في اجتماعات وزارة الصحة، ضمن الاجتماعات مع منظمة الصحة العالمية. أمَّا فيما يتعلّق بكيفية التعاطي مع هذا الوباء مستقبلاً، فقد أثبتت التجربة أنّ الاقتصاد عند حكومات الدول، يتقدّم كثيراً في أهمّيته على صحة الأفراد؛ لذلك أعتقد، نحن سائرون نحو ما يُعرَف بمناعة القطيع، وأنّنا أمام مرحلة طويلة من التعايُش مع هذا المرض. وتحسُّباً من تفاقُم عدد المصابين، وعدم قدرة المستشفيات على الاستيعاب، قامت “عامل” بتجهيز مراكزها الصحية بعددٍ من أجهزة التنفُّس المتطوِّرة؛ من أجل توظيفها، في مواجهة هذه الجائحة، عند الضرورة. الإيجابية الوحيدة قد تكون، وسط هذا النقص، في الاستعداد الصحي لدى الحكومة اللبنانية، هي وصول عدد من المستشفيات الميدانية إلى بيروت؛ للمساعدة في استقبال جرحى انفجار المرفأ، والتي من الممكن الاستعانة بها لاستيعاب المصابين بفيروس كورونا.

لماذا “عامل” ؟

إن الاسم الأساسي لـ “عامل” هو “الهيئة الوطنية للعمل الشعبي”، وهي إطار وطني جامع، ينبثق ويرتبط بالقاعدة الاجتماعية، أو الجذور الشعبية. إلا أنّ المؤسسين لاحظوا أنّ الاسم طويل، ما يجعل حفظه على شيءٍ من الصعوبة، فكان اختيار اسم “عامل” انعكاساً لفكرة المؤسسة عن الحاجة للعمل المستمر، كما جاء اختزالاً لمرحلة تاريخية صعبة. فقد تأسست “عامل” بعد الغزو الإسرائيلي الأول للجنوب عام 1978. وحين وصلت قوات الاحتلال الى منطقة صيدا، وانسحبت منها إلى شريط من البلدات والقرى اللبنانية المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلة، ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي جرائم، في كل مكان، وصل إليه. هذه الاعتداءات الإسرائيلية جعلت جبل “عامل”، وهو المنطقة المجاورة لفلسطين المحتلة، رمزاً للتناقض القومي مع العدو”. أمّا الانطلاقة الفعلية فقد كانت عام 1982، أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان، وقيام جيش العدو بمحاصرة القسم الغربي من بيروت. في ظل هذه الظروف جرى تأسيس لجنة الطوارئ الصحية، لتعبئة كل الطاقات في مواجهة الحصار الإسرائيلي. وتحت ضغوط القصف تقرّر إنشاء أكبر عدد من المستشفيات الميدانية، في ملاجئ لا تطالها مباشرة مدفعية العدو. وفي خلال أسبوعين تمّ تجهيز ستة مستشفيات ميدانية، ومركزين للطوارئ، في أحياء بيروت، والضاحية الجنوبية. هذا الى جانب إنشاء عدد من المراكز الصحية والمستوصفات، في بعض المواقع والأحياء، التي تعطّلت فيها المستشفيات الخاصة؛ نتيجة القصف. بعد الإنسحاب الإسرائيلي من بيروت أنشأت الحكومة اللبنانية “هيئة إنماء الضاحية” من أجل أعادة تأهيل بعض ما تمَّ تدميره، وتوزّعت المسؤوليات بين الشركاء، لتكون مؤسسة عامل هي الطرف المسؤول عن المشرفية والشَّيّاح وبرج البراجنة وحي السلم وصفير، وهي أحياء تُعرف بالكثافة السكَّانية العالية، وكثرة الحالات الاجتماعية الصعبة، وارتفاع مستوى الفقر.

الإنطلاقة الفعلية خلال الغزو الإسرائيلي عام 1982

انتهت الحرب الأهلية، ودخلت “عامل” في مرحلة مختلفة تماماً، وهي تحدّي الانتقال من الإغاثة الى التنمية. كيف تجاوبت “عامل” مع هذه المرحلة؟

بعد انتهاء الحرب الأهلية وجدت “عامل” نفسها أمام تحدٍّ آخر، وهو الانتقال من الإغاثة إلى التنمية. كانت أقوى أسلحة “عامل”، في تلك المرحلة، هي العمل الميداني المباشر مع الناس وللناس، وتحوّلت مراكز الطورائ والإسعاف والدفاع المدني إلى مراكز تدريب وتأهيل وتنمية، ونشر للثقافة الحقوقية. وسط كل ذلك كانت “عامل” أقوى في مرحلة السِّلْم الوطني، مما هي عليه في مرحلة الحرب الأهلية، والغزو الإسرائيلي. فهي حافظت على طابعها الوطني واستقلاليتها، والتحرُّر من الاعتبارات الطائفية والعائلية والشخصية. ركّزت الخطة المذكورة على البرامج الاجتماعية التي تخصُّ الأسرة. وتضمَّنت مشروعات تؤمِّن الدخل، والتدريب المهني، وتدريب الأشخاص المعوَّقين والبرامج التربوية التي تستهدف مكافحة التسرُّب المدرسي ومحو الأُمِّية. هذا الى جانب تركيز تلك الخطة على الجوانب العلاجية، الاهتمام بصحة الأم والطفل، والصحة المدرسية، وترشيد استخدام الدواء. هذا، ولم يكن من الممكن تنفيذ هذه البرامج، من خلال مؤسسة عامل، من دون تطوير العلاقات بينها وبين الهيئات الأهلية الأخرى المحلية والدولية – وبينها وبين الأجهزة الحكومية.

عام 2010 كان عام التحليق دولياً، كيف تجاوبت “عامل” مع هذه التحدِّيات؟

عام 2010 كان عاماً مميَّزا في تاريخ “عامل”، ففي هذا العام انضمَّت “عامل” الى الشراكات الدولية مع منظمات غير حكومية. بعد منحها الصفة الاستشارية في “المجلس الاقتصادي والاجتماعي” في الأمم المتحدة، وانضمامها الى منظمة المسؤولية الإنسانية الدولية، وإلى المجلس الدولي للوكالات التطوّعية، وقد أصبحت “مؤسسة عامل الدولية” عضوا في مجلس إدارته في الانتخابات التي أُجريت في آذار 2018، ومُنحت كذلك صفة المراقب، في المنظمة الدولية للهجرة في جنيف.

وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلُّ على أنّ رؤية “عامل”، منذ تأسيسها، وعبر العقود المتتالية، كانت دائما رؤية إنسانية – حقوقية – تفاعُلية. تعزّز عملها وقت الحرب، ووقت السِّلْم، بروح التضامن الإنساني، وهي تلتزم بالروح الإنسانية، وهي تتعاون مع كل المنظمات الدولية والعربية، التي تؤمن بشكل حقيقي بالنهج الإنساني. ولعل مقاربة الواقع بهذا الحس القيادي، هو الذي ضمن “لعامل”، في مسارها، عبر عدّة عقود، تجنُّب التناقض بين القول والفعل، ووفّر لها المرونة والقدرة الاستجابية العالية.

رؤية إنسانية – حقوقية – تفاعُلية

فرضت الأزمة السورية نفسها على المشهد في لبنان، كيف استجابت عامل أمام هذه التحدِّيات؟

مع ظهور تداعيات الأزمة السورية، تحوّل لبنان، وبسرعة فائقة إلى الدولة الأولى المُضيفة لهؤلاء النازحين، وذلك بما لا يتكافأ مع عدد سكَّانه، ومِساحة أراضيه، وارتفاع الكثافة السكّانية لديه. تسبَّب الوضع الاجتماعي الاقتصادي السياسي، تدهوراً في أحوال الأُسر، في لبنان، وتفاقَم المخاطر، بعدما أصبح أكثر من مليون لبنانيٍّ تحت خطِّ الفقر. إزاء هذا المشهد تحرّكت مؤسسة عامل، وأوجدت برامج خاصة ومجموعة خِدْمات تُسهم في تخفيف هذا الوضع الصعب، أبرزُها خِدْمات صحية متنوّعة، في مختلف مراكزها المنتشرة، على كل الأراضي اللبنانية. إنّ إجمالي طالبي خدمات المراكز الصحية، من النازحيين السوريِّين، فقط داخل لبنان، قد تخطّى الـ 2 مليون خدمة صحية، عام 2107، ولم يكن توفير ذلك بالأمر اليسير. ف تطوّرت قدرات “عامل”، وتطوّرت أنشطتها؛ لتستوعب الضعط عليها من طالبي الخدمة الصحية، من السوريِّين والعراقيِّين واللبنانيِّين أيضاً. وبلغة الأرقام، فإنّ هناك اليوم ما يقارب من 300000 سوريٍّ وعراقيٍّ ولبنانيّ، من الفئات الفقيرة الذين يستفيدون، سنويّاً، من خدمات عامل، في مجال توزيع الحصص التموينية. بالإضافة الى ذلك تمَّ تأهيل عدّة مراكز لمؤسسة “عامل”، ليس توفيراً لأجهزة وخدمات صحية فقط، وإنما امتدّ ذلك، ليشمل تقديم برامج اجتماعية ونفسية وحماية الأطفال (مركز برج البراجنة مثالاً)، وكذلك مركز تدريب وتأهيل الشباب (مركز حي السلم)، وبرامج الدعم النفسي لكبار السنّ (مركزا حارة حريك وبرج البراجنة). أمَّا أبرز ما قامت به عامل في هذا المجال، فهو مشروع التخفيف من حدّة التوتُّرات بين النازحين، والمجتمع المضيف، ويستهدف تعزيز العلاقات والحوارات، بين أبناء المجتمع المحلِّي والنازحين.

نبيل المقدم

 

 

نبيل المقدم

كاتب وصحافي وباحث سياسي لبناني. صدر له العديد من المقالات والمؤلفات ابرزها "وجوه واسرار من الحرب اللبنانية".

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى