ظاهرة الكتل النيابية “المنفوخة” أو “المصطنعة” ونواب “الإعارة”
رزق: الكتل قبائل عائلية ومذهبية. حرب: يستغلونها لتأمين مصالحهم الشخصية
اختلف المشهد البرلماني في لبنان بعد الطائف في ما يتعلّق بطبيعة الكتل وتوزيع خارطتها، حيث كان التغيير متعمّداً وممنهجاً وإستخدمت فيه وسائل عدّة.
فعند كل إستحقاق سياسي، يتكشّف كم من تكتّلات نيابية “منفوخة” من حيث الحجم وكم من كتل “مصطنعة” من حيث التركيبة البنيوية. هذا من دون أن ننسى ظاهرة النائب “الحلوينة” والنائب “الوديعة” ونائب “جائزة ترضية” أو “حفظ الخواطر”.
رغم الإتفاق في الطائف على تحقيق المساواة في التمثيل بين المسلمين والمسيحيين، عبر رفع عدد النواب من 99 إلى 108 بعد نقاش محتدم ومحاولة حلفاء سوريا رفع العدد الى 128 بناء على طلبها، إلا أنه تم النكس بهذا الإتفاق لاحقاً.
أحد المشاركين في إجتماعات الطائف النائب والوزير السابق إدمون رزق إعتبر في حديث مع “أحوال” ان “تعديل عدد النواب كان معلّباً من أجل إيصال أتباع دمشق الى البرلمان وتأمين إستمرارية وضع اليد السورية على لبنان”.
من جهته، رأى المشارك أيضاً في إتفاق “الطائف” النائب والوزير السابق بطرس حرب أن “الهيمنة السورية على لبنان والحياة السياسية خلقت ممارسات لم يكن لبنان معتاداً عليها، وتركت أثراً على عمل الكتل السياسية وعقليتها مستمرة حتى اليوم”. لكنه إعتبر في حديث لـ”أحوال” أن “رغم كل الممارسات الشاذة التي كان يقوم بها “السوري” في الماضي إلا أن الحالة على صعيد الممارسة السياسية كانت أفضل من اليوم. كان هناك لياقة وكان هناك بعض القوى السياسية المعارضة التي تعبّر عن رأيها وتسلّط الضوء على الإنتهاكات ومخالفات الدستور والقانون وكان رأيها مسموعاً وهذا أهم شيء وكان له تأثير على مجرى الحياة السياسية”.
إنطلاقة عرجاء للحياة البرلمانية بعد الطائف
ففي 23 أيار 1991 ومع إقرار التعديلات الدستورية في مجلس النواب، تم تعديل قانون الإنتخاب وإستحداث 9 مقاعد نيابية جديدة بعد إقرار رفع العدد الى 108. وفي 7 حزيران 1991 تمّ تعيين 55 نائباً عبر ملء المقاعد النيابية الشاغرة والمستحدثة والتمديد للنواب الذين كانوا على قيد الحياة حتى العام 1994. لكن ما هي إلا أشهر حتى رُفع عدد النواب الى 128 وتقرر إجراء إنتخابات في العام 1992.
زيادة عدد المقاعد النيابية وكيفية توزيعها وطريقة تعيين النواب – حيث على سبيل المثال عيّن القومي غسان مطر عن المقعد الماروني في بيروت خلفاً لرئيس حزب الكتائب بيار الجميل – وما تلى ذلك من مقاطعة كبيرة قادها المسيحيون لإنتخابات 1992، جعل الحياة البرلمانية تنطلق عرجاء. لاحقاً كرّست القوانين الإنتخابية التي فصّلت على قياس المصالح والحسابات السياسية هذا الإعوجاج، بالإضافة إلى جعل أشخاص مغمورين أو من خارج الحياة السياسية نواباً كـ”حلوينة” لخدمات شخصية قدموها لسلطة الوصاية السورية أو السلطة اللبنانية أو أعطى مقاعد نيابية “جوائز ترضية” لبعض التيارات السياسية في مناطق حضورهم ضعيف فيها. إلا أن المثل الأكثر وضوحاً كان عبر فرض مرشحين على الرئيس الراحل رفيق الحريري في إنتخابات العام 2000 عرفوا في ما بعد بالنواب “الوديعة”.
رزق: الكتل النيابية اليوم هي قبائل عائلية ومذهبية
مع دخول لبنان مرحلة جديدة في ربيع العام 2005 بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري والإنسحاب السوري، لم تستقم الحياة البرلمانية لا بل شهدت مزيداً من النواب “الاوراق” والكتل المصطنعة.
يقول رزق: “بعد الطائف، دخلت علينا آفة الكتل المعلّبة والنواب الودائع. للأسف حتى اليوم لم نشف منها. النظام البرلماني عندنا مقتول والمؤسسات معطلة والأدق أنها غير موجودة وشكلية ومرتهنة. القوانين الإنتخابية المتتالية كانت تآمرية ولا تمتّ الى النظام البرلماني بصلة وتحرم اللبنانيين من إختيار ممثليهم وتفرض عليهم أمراً واقعاً. إن المطلوب قانون إنتخابي يؤمّن التمثيل الصحيح وإعادة إنتاج السلطة، فعدم قدرة المواطنين على إيصال ممثلين حقيقيين عنهم يؤدّي إلى فقدان القدرة على المحاسبة. فالكتل النيابية اليوم هي قبائل عائلية ومذهبية”.
مع انعقاد جلسات الحوار الوطني برعاية الرئيس السابق ميشال سليمان في بعبدا عام 2008، وإعتماد الكتلة التي لا يقل عدد اعضائها عن 4 للمشاركة، راحت تتم فبركة كتل “شكلية” ويتم إعارة نائب من هنا الى هناك. بعدما كان يتم ذلك في وقت سابق، لتكبير الحجم المعنوي لبعض اللاعبين السياسيين.
تجربة النائب السابق إميل رحمة نموذج عن هذا النهج، فهو إنتخب على لائحة “حزب الله” في بعلبك – الهرمل عام 2009، وتمّ ضمه الى كتلة تيار “المردة” ليبلغ عددها 4 نواب. بما أن هذه الكتلة إنضمت الى تكتل “التغيير والاصلاح” برئاسة العماد ميشال عون، أصبح رحمة عضواً فيها. عند إستحقاق إنتخابات رئاسة الجمهورية عام 2016، والشرخ بين عون وفرنجية، فضّل رحمة البقاء مع عون. لكن خلال الانتخابات النيابية عام 2018، عاد رحمة الى المربع الاول وإلتزم الترشّح مع “حزب الله” مقابل “التيار” الذي كان على لائحة أخرى.
حرب: حكومات “النفاق الوطني” وسياسة “حكّلي تا حكلّك” قضت على المعارضة
اليوم، ومع شد الحبال بين الأفرقاء السياسيين، في إطار التكليف لتشكيل حكومة جديدة، تتظهّر حقيقة بعض الكتل “المنفوخة” والأخرى “المصطنعة”، فما الجدوى من إعتماد هذا الاسلوب في العمل السياسي والبرلماني؟
اعتبر النائب السابق حرب “أن مفهوم العمل السياسي بعد الطائف تغيّر كذلك القواعد التي كانت ترعاه والتقاليد السياسية”، مضيفاً: “لذا كثرت الكتل التي تتشكل بحكم الظروف وهي غير حقيقية كتكتل “التغيير والاصلاح” أو “لبنان القوي” على سبيل المثال لا الحصر حيث نرى أن مكوّناته تفترق عند الكثير من الاستحقاقات. مواقف نواب الطاشناق ونائب رئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي من تسمية الرئيس سعد الحريري بعكس توجه التكتل نموذج عن ذلك، أضف الى النواب الذين تركوا أخيرا التكتل. كما هناك كتل شكلت من باب الفولكلور ككتلة “ضمانة الجبل” التي يترأسها النائب طلال ارسلان ومدّه العونيون بالنواب ماريو عون وسيزار أبي خليل وفريد البستاني كي تشكّل”.
أسف حرب “ألا مناهج وأفكار مشتركة وبرامج توحّد عدداً كبيراً من الكتل اليوم بل المصالح المشتركة أي مصلحة الكتل النيابية وسعيها لكيفية التحكم بالحياة السياسية”. وإذ شدّد على أن “وجود الكتل ظاهرة صحية في الحياة البرلمانية، أوضح حرب أن كيفية الممارسة وفقدان الاصول والمبادئ التي ترعى عمل الكتل يجعل الحياة السياسية تجري بشكل معاكس لمصالح الوطن وتسخّر لتأمين مصالح رؤساء الكتل الذين يستغلون كتلهم لتأمين مصالحهم الشخصية. ما سمح بممارسة سياسة “حكّلي تا حكّلك” ووفر مصلحتي كي أوفر مصلحتك وهذا في الحقيقة كارثي لآن لا عمل سياسياً ممنهج وذو أبعاد”.
“حين تغيب المعارضة يستشري التملق والتسلق والفساد ما يتسبب بضرر كبير في الحياة السياسية ويؤدي الى تعطيل النظام السياسي القائم على المساءلة”، يقول حرب ويضيف: “إن إعتماد حكومات الوفاق الوطني وانا أسميها “النفاق الوطني” التي يجتمع اعضاؤها والكتلة السياسية فيها على تأمين مصالحهم وتعزيز نفوذهم في السلطة لا تأمين مصلحة البلد وانتفى وجود المعارضة في مجلس النواب وهذا أخطر شيء على الحياة الديمقراطية. المفهوم الجديد القائم إذا لم أكن موجوداً في الحكومة فأنا غير موجود وهذا يدل على جهل الطبقة السياسية لأن الحكم يقوم على الموالاة والمعارضة التي لا يقّل دورها شأناً عن المشاركة في الحكومة وهذا ما أدى الى تعطيل النظام السياسي”.
الحياة البرلمانية السليمة رافعة أساسية لدولة المؤسسات والقانون وركيزة من ركائز المحاسبة، وقيام الكتلة النيابية الفعلية والفعّالة أشبه بـ”أوكسيجين” لها. أما “بهلوانيات” السياسة عبر الكتل النيابية “المنفوخة” أو “المصطنعة” ونواب “الإعارة” فلا تثمر سوى تضليل وتعطيل ومراوغة.