المسيحية في إيران: تاريخها وواقعها الراهن
قراءة في كتاب سركيس أبو زيد المسيحيون في إيران من قبل الإسلام حتى اليوم
من هم المسيحيون الإيرانيون، هل هم أقليّة مضطهدة أم في وحدة متجانسة مع سائر مكونات الشعب الإيراني، ومتى وكيف نشأت الكنيسة في إيران؟ وكيف تطورت وتوّسعت؟
والسؤال الأهم، الذي يحاول الباحث اللبناني سركيس أبو زيد الصادر عن “مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي” في طبعته الثانية عام 2017، الإجابة عليه وهو: كيف عُرفت المسيحية بالغرب أكثر، وأصبحت الدين الرسمي فيه، ولم تنتشر بالقدر نفسه في الشرق الذي ولدت فيه؟ حيث يحاول أبو زيد نقل صورة أقرب إلى الواقع، في ظل وجود قانون أحوال شخصية منح المسيحيين هامشاً من الحرية في بلاد فارس.
ففي الفصل الأول الذي يمتد على 80 صفحة يبدو فيه الجهد الكبير للكاتب، خاصة من الناحيتين التاريخية والدينية للمسيحية المشرقية السريانية.
المسيحية والساسانية
وتشير المخطوطات السريانية القديمة إلى أنه كان للمسيحيين في بلاد فارس مع بدايات القرن الثالث زهاء 360 كنيسة، كما قدّموا العديد من الشهداء.
وقد ارتفع عدد المسيحيين أيام الدولة الساسانية لدرجة أن آلاف الفرس اعتنقوا المسيحية، لكن رغم ذلك لم تقم كنيسة فارسية بالمعنى القومي للكلمة، وظلّت سريانية اللسان والتقاليد والأصول وبقيت انطاكيا مرجعها. وانتشرت المسيحية في الأقوام الناطقة بالفارسية والتركية حتى القرن الرابع عشر إلى أن قضى عليها تيمورلنك.
وكان للساسانيين دوراً حيث اعترفوا بالمسيحية كدين شرعي قبل أن يعترف بها الامبراطور الروماني. ففي آواخر الحقبة الساسانية، كانت المسيحية تشكل التهديد الأقوى للديانات نتيجة الاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له في بلاد فارس فكان أن انتشرت بشكل واسع جداً.
من هنا، وفي هذه الخلاصة، يبدو الكتاب توثيقي بامتياز، فالمعلومات التاريخية فيه غير متداولة في الثقافتين العربية والإسلامية الشعبيتين.
التقسيمات
فكتاب “المسيحية في إيران تاريخها وواقعها الراهن” للباحث سركيس أبو زيد يمتد على خمسة فصول، الفصل الأول مقسّم إلى 7 أبواب، يتناول المسيحيين قبل الإسلام، أما الثاني وهو 4 أبواب يتناول المسيحية منذ ظهور الإسلام حتى ثورة الإمام الخميني عام 1979، أما الفصل الثالث فيبحث في وضع المسيحيين في الجمهورية الإسلامية في 9 أبواب، ويهتم الفصل الرابع بالأنظمة والقوانين التي ترعى شؤون المسيحيين وغير المسلمين بعامة في إيران. أما الفصل الخامس فيركز على المسيحيين الإيرانيين المنتشرين في العالم.
وكان النساطرة الإيرانيون قد نقلوا المسيحية إلى آسيا الوسطى عبر طريق الحرير، حيث اعترف الساسانيون بالدين الجديد كدين شرعي قبل فترة طويلة من اعتراف الامبراطور الروماني بها في القرن الثالث.
وعاش المسيحيون مرحلة استقرار في القرن السابع، فانتشرت مدارس عديدة في مناطق ما بين النهرين في كل من “الرها” و”نصيبين” و”جنديسابور”. أما في الامبراطورية الفارسية فقد نشأت عدة مدارس إلا أنه وصلنا منها فقط: مدرسة “قطيسوفون” أو “المدائن”، ومدرسة “قنشرين”، ومدرسة “رأس العين”، ومدرسة “قرتمين”.
التاريخ والتوثيق
هو كتاب شامل لناحية المعلومات التفصيلية، حيث نزل الإسلام بعد حوالي 600 عام على نزول المسيحية. لكن بحلول أوائل القرن السابع الميلادي أصبحت المنطقة الواقعة غربي إيران مسيحية بأكملها.
ومن المؤكد أنه لا يمكن الاحاطة بكل ما في هذا الكتاب من معلومات تاريخية توثيقية نظراً لغناه بها، كونه يجمع بين التاريخ والتوثيق.
وأبرز ما وثقه أبو زيد في كتابه هذا هو أن الأمراء العباسيين استعانوا بالمسيحيين في الإدارة والتنظيم الإقتصادي للدولة، كما أتاح المسيحيون للعرب المسلمين التعرّف على الفلسفة والعلوم الغربية، لا سيّما اليونانية منها، علماً أن التعاون كان عسيراً في بدايته.
ويُؤخذ على الكتاب غياب الهوامش التعريفية ببعض المدارس والتوجهات والكنائس، كمدرسة “جنديسابور”، وبعض الألقاب والصفات الكنسية التي يجهلّها القارئ العربي بشكل عام.
واللافت هو تطور أوضاع المسيحيين في المشرق في آواخر القرن السابع الميلادي سلباً، حيث تم الضغط عليهم للدخول في الإسلام. ومع تغيّر الأوضاع في كل من روسيا وتركيا في القرن التاسع عشر ارتفع عدد المسيحيين في إيران بسبب المعاملة التي كان يتلقاها الأرمن في هذين البلدين عبر لجوئهم إلى بلاد فارس التي منحتهم الحرية والدعم.
تاريخ من الاضطهاد
لكن لم يسلم المسيحيون الإيرانيون في العقود الأولى من القرن الرابع عشر من الاضطهاد من جديد حيث دمر تيمورلنك الكنائس والأديرة عام 1394، اضافة إلى المذابح التي ارتكبها محاولاً إحياء الإسلام السني “السلفي”.
ورغم كل الاضطهاد بقيت الكنيسة في بلاد فارس على علاقة وطيدة مع كنيسة الهند عبر طريق الحرير البحري والخليج والمحيط الهندي.
كما بقيّ المسيحيون في القرن الرابع عشر في إيران، رغم تناقص أعدادهم بنسبة كبيرة جداً، فاقتصر وجودهم على منطقة أرومية، الواقعة في الجزء الشمالي الغربي للبلاد.
هذا الجهد الكبير للباحث يتطلّب جهود فريق عمل كبير، ومما يلفت إلى أن ما قام به أبو زيد كباحث هو ورقة بحثية علمية بعيدة عن التحيّز أو التعصب لفئة أو لجهة.
الإيرانيون المسيحيون المعاصرون
يؤخر أبو زيد تناول أوضاع المسيحيين المعاصرين في إيران إلى الفصل الأخير كترتيب تصاعديّ إجباري، فيتناول وضعهم خلال حكومة بهلوي ومُصدق الذي قضى على التبشيريين في توّجهٍ منه لتعزيز النزعة القومية الفارسية مقابل الهوية الدينية.
وقد أدّى قرار رضا بهلوي بإغلاق الإرساليات، التي كانت تعمل نتيجة اتفاقية إدنبره 1910_ هذه الاتفاقية التي تسمح للارساليات الأجنبية باختيار أماكن عملها في بلاد ثلاثة بحرّية تامة، هي (إيران، تركيا، العراق)_ كون الحكومة الإيرانية كانت تشكك في نشاطهم ذي الطبيعة السياسية، إذ كانوا يحرّضون أبناء القومية الكردية في عمل مُضاد لعمل الحكومة الوطنية التي كانت تسعى لدمجهم بالمجتمع الفارسي.
الهوية الدينية أم القومية؟
ينتظر القارئ الصفحة 130 من أصل 260 صفحة ليطلّع على أوضاع المسيحيين في العصر الحالي. ففي الفصل الثالث، وبعد 136 صفحة يبدأ أبو زيد بتناول موضوع المسيحيين في الجمهورية الإسلامية المعاصرة، مما يعني أن الهوية الدينية في إيران ليست في الدرجة القصوى من الأهمية، كما هو الحال في بلاد الشرق الأوسط مثلاً.
ملف الأقليات المثير
ففي باب الأقليات، والذي هو الأهم والأكثر حساسية، كونه النافذة التي تتدخل من خلالها الدول الغربية في سياسات الدول العربية والإسلامية والمشرقية. فمن بين الجماعات غير المسلمة يمكن القول إنّ المسيحيين الأرمن هم الأوفر حظاً بين الأقليات الإيرانية نظراً لامتلاكهم تاريخاً يمتد على 400 عام من التعايش السلس مع المسلمين في إيران.
فأكبر أقلية مسيحية في إيران هم الأرمن (150 ألف)، أما الكلدان والآشوريون فلا يتجاوز عددهم الـ10 آلاف مواطن. و”بحسب العديد من رجال الدين المسيحيين فإن وضعهم بعد الثورة الاسلامية تحسّن كثيراً لأن حقوقهم تحفظ وتحترم بحسب دستور مجلس الشورى الاسلامي”.
فالجزء الكبير من الكتاب يركز على تاريخ وجودهم في بلاد فارس منذ ما قبل الإسلام، في ظلّ الديانات المتعددة في هذه البلاد المترامية، والتي تتصل بعدد كبير من الدول المتعددة القوميات والأعراق والأجناس والديانات كتركيا، وأذربيجان، وأرمينيا، وروسيا..
ويُفرد الباحث ملفاً خاصّاً بدور الأرمن في الثقافة واللغة والفن والأدب والعمارة الإيرانية طيلة 400 عام، هو عمر وجودهم فيها. لدرجة أنهم قد أسسوا فرعاً في جامعة أصفهان سمّوه “أرمنولوجيا”.
وجاء تمثيل الأقليات المُعترف بها بعد ثورة عام 1979 بخمسة مقاعد في البرلمان الإيراني، وهم على الشكل التالي: 2 للأرمن، وواحد للكلدان والأشوريون معا، وواحد لليهود، وواحد للزرادشتيين.
علماً أن الأقليات تشمل كل من الزرادشتيين، واليهود، والبهائيين، والمندائيين، والمسيحيين كالأرمن والكلدان (6 آلاف) والآشوريين (10 آلاف نسمة) والإنجيليين والبروتستانت.
ويعيش الأرمن برفاهية، خاصّة أنهم يملكون 19 جمعية اجتماعية وثقافية، إضافة إلى 28 مدرسة أرمنية في أصفهان، ومعروف عنهم أنهم من التجار الأغنياء، ولهم دور بارز في تطوير الصناعات الفنية الدقيقة والصناعات البترولية.
والمجتمع الآشوري هو المجتمع الأول الذي اعتنق المسيحية منذ عهد الملك قوروش، وحتى ما بعد ظهور الإسلام. حيث عمل المسلمون منذ البداية على تحديد العلاقة بينهم وبين الأقليات فأطلق عليهم وصف “أهل الكتاب” و”أهل الذمة”.
المواطنية
لطالما كان في لبنان موضوع الأقليات الشماعة التي تُعلق الدول الغربية سبب تدخلها في هذا البلد المشرقي، أو العربي، أو الإسلامي، أو الشرق أوسطي، حيث يعتبر الملف حساسا ودقيقا، ويكشف من خلاله مستوى المواطنية لدى الأفراد من أبناء الطوائف الصغيرة.
ويركز أبو زيد على الأقليات في المشرق العربي، فيقول “يبلغ عدد المسيحيين اليوم في القدس 2% بعدما كانت نسبتهم 53% عام 1922، فبيت لحم لم يعد فيها سوى 12% بعد أن كانوا 85% عام 1948. وكان المسيحيون يشكلون 20% من سكان فلسطين، لكن نسبتهم اليوم لا تتجاوز 10%”.
ويُعيد استمرار حال التراجع هذا، إلى تناقص عدد المواليد، بسبب ارتفاع المستويين الإقتصادي والاجتماعي لدى المسيحيين. وهو هدف من أهداف “إسرائيل”، الكيان الغاصب، لأجل حصر قوى الشرق بقوتين فقط مسيطرتين متناحرتين، هما: الإسلام واليهود. لذا تشجع الكنائس التبشيرية الهجرة من أجل إحلال مسيحيي الشرق في المجتمع المسيحي الغربي.
أخيراً…
كتاب سركيس أبو زيد التوثيقي التاريخي هذا: أهو صرخة بوجه التبشيرين؟ أم بوجه السلطات الوطنية؟ أم كتب بهدف إبراز الوجه الجميل للحكومات الإيرانية المتعاقبة؟ أم هو تحذير للمسيحيين من خطر الاندثار في الشرق معقل المسيحية الأول؟؟
سلوى فاضل