منوعات

الخُلد اللبناني صديق للبيئة ومجدّد للتربة… هذه وظائفه بعيداً عن التخريب

مع تردّي الظروف الاقتصادية والمعيشية ومصادرة المصارف مدَّخرات المواطنين، وبعد أن فقد القسم الأكبر منهم مورد العيش مع إقفال عدد كبير من المؤسسات أبوابها وتصفية أعمالها وتسريح موظفيها وعمالها، ومع تعذّر السفر بحثاً عن فرصة عمل وسط جائحة “كورونا”، وما فرضت من قيود مترافقة مع أزمات مالية واجهت ولا تزال كبريات الشركات في العالم، إتجه المواطنون لإعادة استصلاح أراضيهم وزراعتها، بحثاً عن فسحة أمان اجتماعي، على الأقل لناحية توفير الحد الأدنى من موجبات الحياة.

لكنَّ استعادة القطاع الزراعي دونه عقبات، من حرث الأرض إلى غرس الشتول وزرع البذار واستخدام الأسمدة والأدوية الزراعية، وهذه أمور تمكّن الناس من مواجهتها، بالتعاون وتبادل الخبرات في مـا بينهم، مستعينين أيضاً بمزارعين ما تخلُّوا عن معاملة الأراضي، إلا أنّ مشكلة واجهت معظم المواطنين في عاليه والمتن وسائر المناطق اللبنانية، تمثلت في وجود حيوان “الخلد” بأعداد كبيرة، الأمر الذي تسبب بإتلاف مزروعاتهم بنسب مختلفة، ما فرض جملة من التحديات، أفضت إلى اتباع وسائل عدة للتخلّص منه.

نجد: التوازن البيئي

 

وفي مقاربة لواقع الحال، بدا أنّ هذه المشكلة تركّزت على نحو كبير في الأراضي المستصلحة حديثاّ، فيما الأراضي العائدة لمزارعين كانت إلى حد بعيد في منأى عن التخريب، دون معرفة السبب، لكن المواطن رامي نجد صاحب مزرعة أبقار في بلدة العبادية (بعيدا) ويعني بالحيوانات البرية، رأى أنّ “السبب ربما يعود إلى أن الخلد وَجدَ في الأراضي الزراعية المهملة فرصة أكبر للتكاثر”، لافتاً إلى أنّ “الخلد في المناطق الزراعية في المتن الأعلى أضراره قليلة ولا نعلم إن كان الأمر كذلك في مناطق لبنانية أخرى”.

وقال نجد لــ “أحوال”: “عندما يختلّ التوازن البيئي تتضرّر المزارع”، لافتاً إلى أنّه في “وادي العبادية – شويت، واجهت المزارعين مشكلة قبل سنوات عدة تمثلت في ازدياد أعداد الخنازير البرية بسبب غياب أعدائها الطبيعيين (الذئب الذي يفترسها والضبع المخطط الذي يلتهم صغارها داخل أوكارها كونه لا يصطاد ويقتات على الجيف والفضلات)”، وأشار إلى أنّه في تلك الفترة شجع المسؤولون على صيد الخنازير للحد من أعدادها بعد أن هجر مزارعون أراضيهم، ذلك أن الخنازير كانت (تحرث) بأنيابها الأثلام المزروعة بحثا عن الديدان والحشرات، وكانت أيضا تهز برؤوسها الضخمة الأشجار فتتساقط ثمارها وتلتهمها”.

ورأى نجد أنّ “الأمر يتكرر اليوم مع تكاثر الخلد بأعداد كبيرة ولو في مناطق محددة، وذلك مرده أيضا إلى غياب وتراجع أعداد أعدائه الطبيعيين كالنمس والثعلب وأبناء آوى وغيرها”، لافتاً إلى أنه “كثر في الآونة الأخيرة قتل الثعالب طمعا بفرائها أو لاقترابها من مزارع الدجاج”.

وقال: “الخلد يلتهم جذور الخضار ما يؤدي إلى يباسها”، لافتاً إلى أنّ “المزارعين يستخدمون نوعاً من الحبوب الكيميائية تصدر منها غازات سامة، وتوضع في مسارات حفرها الخلد بعد سد الفتحات التي يخرج منها ما يؤدي إلى نفوقه”.

دراسة لبنانية – أوروبية

 

ضُرب المثل بالخلد لقدرته على المثابرة وحفر التربة، كأن يقال “فلان يحفر مثل الخلد”، فما هو هذا الكائن الغامض؟ وما أهميته البيئية؟ وما أضراره؟

ونستعين هنا بأول دراسة لبنانية – أوروبية مشتركة أعدها منذ فترة “مركز التعرف على الحياة البرية والمحافظة عليها Animal Encounter في مدينة عاليه، وقاد الدراسة رئيس المركز الخبير في الحياة البرية والأستاذ المحاضر في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية البروفسور منير أبي سعيد والباحث من جامعة سلوفينيا Slovenia University الدكتور روب أتكينسون Rob Atkinson بعنوان “Whittet Books”، وخلصت إلى أن الخلد “مفيد لصحة التربة”.

وإذا كانت ثمة نظم إيكولوجية في الطبيعة تشكل محيطاً حيوياً لسائر الكائنات، يتبدّى هنا سؤال يأتي طرحه بديهياً حيال هذا الحيوان الذي يشكو منه المزارعون، فما هو دوره ضمن هذه الحلقة أو هذا المحيط؟ وهل هو مجرد حيوان “طفيلي” لا وظيفة له إلا “التخريب”؟

أبي سعيد

البروفسور بوريس وأبو سعيد خلال العمل وبدا بعض الفئران وخلد أمامهما
البروفسور بوريس وأبو سعيد خلال العمل وبدا بعض الفئران وخلد أمامهما

ما يسترعي الإنتباه والإهتمام أن ليس ثمة دراسات وافية عن الخلد، ومن هنا، جاءت الدراسة الوحيدة في لبنان لتوثق تفاصيل كثيرة غير معروفة عن هذا الكائن الليلي، من شأنها أن تجيب عن تساؤلات كثيرة، وكيف يمضي كل حياته تحت الأرض.

وقال أبي سعيد: “الخلد اللبناني أعمى ولا يرى أبداً، لكن إذا نزعنا جلد الرأس نجد ثقبين صغيرين في الوجه ونرى عينين واضحتين لكنه لا يرى بهما، لسبب بسيط وهو أنّه لا يحتاجهما فهو يعيش في بيئة مظلمة تحت الأرض ويعتمد على حاسمة السمع القوية جداً، وفي الوقت ذاته ليس لديه شكل الاذن الخارجية المعروفة لدى معظم الكائنات ومن بينها الإنسان، وأذناه عبارة عن تجويفين صغيرين”.

وأشار إلى أنّ “الخلد اللبناني ينتمي إلى فصيلة تعرف باسم Spalax Leucodon Ehrenbelgi وهو نوع من بين عشرة أنواع موجودة في العالم”، منوهاً إلى أنً “أسنانه الأمامية لا تتوقف عن النمو طوال حياته كما سائر الفئران لأنّه ينتمي إلى فصيلتها، فهي تستمر في النمو لأنّها تتعرّض لـ (البري) خلال حفر الارض، وهو يقفل فمه وتبقى أسنانه الأمامية ظاهرة كي لا يدخل التراب إلى فمه خلال الحفر”.

ولفت أبي سعيد إلى “أنّنا أسرنا عدداً منها في سياق الدراسة التي أعددناها – في جانبها العملي – فوجدنا أنّ وزنه يصل إلى حدود المئتي غرام وطوله يتراوح ما بين 18 و20 سنتيمتراً وهو موجود في كافة الاراضي اللبنانية”. وقال: “ثمة نقصاً دائماً في المعلومات على مستوى الـ Data الخاصة بالخلد، لكن الاتجاه المؤكد أن اعداده في تناقص مستمر حسب اللائحة الحمراء لـ (المجلس الدولي لصون الطبيعة)”.

 

تهوئة التربة

 

ورأى أبي سعيد أنَّ “ثمة دوراً أساسياً ومهماً جداً للخلد لجهة تهوئة التربة، ومن ثم التهام الديدان تحت الأرض، فضلاً عن أنه عندما ينبش التراب ويخرجه إلى السطح يساهم في تجديدها، لكن في المقابل يشكو المزارعون مما يتسبب به من أضرار لجهة تخريب مواسم الخضار فهو يقتات على جذورها ومن بينها البطاطا والجزر وأشجار الفاكهة”.

وعن طرق مكافحته، قال: “يلجأ المزارعون عادة إلى ثلاث وسائل للقضاء على الخلد، الأولى نصب فخ متصل بجهاز يشبه سلاح الصيد ومزوّد بخرطوشة صيد 12 ملم تنطلق نحوه لحظة خروجه من ثقب الأرض، والثانية باستخدام السموم والمبيدات والثالثة من خلال تعويم المناطق التي يعيش فيها بالمياه عبر رصد الثقوب التي تعلن عن وجوده فيضطر للهرب والبحث عن مناطق جديدة أو ينفق بعد هذه العملية”.

 

التوازن المطلوب

 

وعن مساوئ ومنافع الخلد، قال أبي سعيد: “كل الكائنات على وجه الأرض إن زادت أعدادها يصبح ضررها أكثر من فوائدها، وطالما أن عددها محدود فلا أثر سلبي لها، فالخنزير البري إذا كان عدده محدوداً يكون دوره مهماً جداً للغابة، وإن كثرت الثعالب وطيور الحجل والدوري يصبح وجودها مسبباً للضرر”.

وأضاف: “كل كائن حي له منافع في الطبيعة، لكن عندما يخرب الإنسان الطبيعة ويقتل الأفاعي وحيوان النمس وغيرها من الطبيعي أن تزداد أعداد الخلد وعندها تصبح مساوئه كبيرة”، وقال: “لندع الخلد يعيش في بيئته الطبيعية ويؤدي دوره في التوازن البيئي، لكن إذا تسبب بأضرار في المناطق المزروعة فلا حلّ إلا بمكافحته، ففي الأحراج دوره مهم جداً فهو ينقل التربة والمناطق التي يحفرها تستخدمها حيوانات أخرى كجحور، ويساهم في تطوير البيئة الطبيعية للغابة”.

 

الاتحاد الدولي لصون الطبيعة

 

وعمّا إذا تعرّض الخلد للإنقراض، قال أبي سعيد: “الخلد الذي يعيش تحت الأرض ويشق مسالك فيها ويساهم في تهوئتها يساعد أيضاً في مكافحة الكثير من الحشرات الضارة، وإذا انقرض الخلد سنواجه امراضاً قد نكون عاجزين عن مكافحتها”.

وعن سبب وضع الخلد على قائمة الحيوانات المهددة بالإنقراض في العالم، أشارت دراسات أخيرة للاتحاد الدولي لصون الطبيعة IUCN  إلى أنّ “المجلس حدّد ثلاثة أسباب رئيسية: السم، قتله وتدمير البيئة الطبيعية التي يعيش فيها، وذلك استناداً إلى معطيات توصّل إليها خلال دراسات أجريت وهو يلحظ الآن سبل معالجتها”.

أنور عقل ضو

أنور عقل ضو

صحافي في جريدة "السفير" منذ العام 1984 إلى حين توقفها عن الصدور. عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية في لبنان والعالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى