منوعات

“مؤتمر الجنوب” يُطلق وثيقته داخلياً تحضيرًا لمُعارضة “حقيقية”

يُسابق القيّمون على “مؤتمر الجنوب” الوقت لاستكمال ما بدأوه مع إعلان المؤتمر وانطلاقه يوم 20 حزيران الماضي في منطقة النبطية الفوقا، وسط دراسة متأنية تتسم بالبطء وعدم الالتزام بمواعيد وضعت للإعلان عن الوثيقة السياسية التي يدرسها المؤسسون بعناية ولا يريدون “سلق” الأمور من دون إنضاج.

ولعلّ المؤسسين، ومعظمهم من غير الحزبيين المجرِّبين في السياسة، يعلمون مدى صعوبة المهمة خاصة في الجنوب حيث تبدو المعركة الأكثر دقة في خرق السيادة السلطوية عنها في المناطق الأخرى. لكنهم لا يواجهونها بعدائية أو بتشنج، بل من منظور المُتمايز المُفترَض من قوى تغيير تريد تقديم النموذج الأفضل للجنوبيين الذين يحتفظ الكثير منهم باعتراضات على السلطة، إلّا أنّه هائل التردّد في المضي في طريق وعرة لمقارعة تلك السيادة لعدم توفر البديل المقنع لها.

وهذا التحدي يشابه نظيره في مناطق أخرى، والأسئلة تتوالى حول ماهية قوى التغيير والبرنامج الذي تريد تقديمه ومدى واقعيته. ولذلك يجهد هؤلاء في شرح طويل للتعريف بما هم في صدده وقدموه قبل أيام عبر مسودة وثيقة شاملة حصل عليها “أحوال” ستكون عرضة نقاشات وبحث طويلين قبل إقرارها.

مظلة جامعة لقوى التغيير

 

وتمثَّل التحدي الأول في إشكالية الهيكلية التنظيمية، فقد قلق كثيرون من خوض تجربة حزبية مثلما طرح الحزبيون من خارج أركان السلطة وهم من شيوعيين وناصريين ومن الكتلة الوطنية وغيرهم من تيارات وُلدت من رحم تاريخ 17 تشرين 2019، كيفية المواءمة مع حزب جديد، فأتت التوضيحات “بأنّنا نشكل مؤتمرًا دائمًا للمعارضة ولسنا حزبًا”، وقُدمت الوثيقة بعد نتاج عمل أسابيع، إلى مهتمين في مناطق رئيسية للحراك الشعبي مثل صيدا وصور وبنت جبيل وحاصبيا..

وتمّ الاتفاق على أن تكون مظلة تجمع كلّ قوى التغيير ويكون تمثيل الأحزاب فيها “شخصيًا” وبذلك تستفيد تلك الأحزاب المعارضة ممّا لا تستطيع من جمعه في إطارها التنظيمي.

ثمة كلام طويل حول الوثيقة التي تعدّ انعكاسًا لنقاشات جرت داخليًا وتنتظر بلورة الخلاصات. والمؤسسون يؤكدون فيها انطلاقهم من مجموعة قيم ومنطلقات وطنية في مؤسسة سياسية متنوعة ومنظمة، ينتسب إليها المواطنات والمواطنون بصيغة الأفراد سواء من قوى الاعتراض أم غيرها، وتهدف إلى ترجمة هذا التنوّع إلى القوّة الاعتراضية في الجنوب على طريق بناء مشروع دولة المواطنة والمساواة.

يشدّد المؤتمرون على الحوار والعمل لبناء قوى تنتشر في المناطق لإنتاج معارضة حقيقة ذات خطاب وطني جديد ينطلق من الناس وشؤون المجتمع والتطلع نحو دولة القانون والمؤسّسات، ذات سيادة على أرضها وفي علاقاتها الخارجية.

لم يسعَ هؤلاء إلى صوغ بيان سياسي ومواقف وأحكام مسبقة جامدة، ويشيرون إلى أنّهم افتتحوا حوارًا جامعًا ونديًا مفيدًا وضروريًا لبناء قوّة سياسية جديدة متنوّعة ومنظمة، لإنتاج خطاب مؤسس في شأن الدولة والوطن والاقتصاد والمجتمع والمواطنة.

 

الانهيار وأزمة النظام

 

والنقاشات تدور في السياسة حول واقع النظام والمنظومة والدولة. وفي الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي والأزمة الاجتماعية، ولعلّ الأهم في واقع تيّار الاعتراض وتحدياته وسبل ارتقائه إلى معارضة.

هي محاور ورشة سياسية تتمحور حول أزمة نظام الطائف التي وصلت إلى مداها، مع تعطيل السلطات التنفيذية والتشريعية، وازدياد مخاطر التشظي الوطني والتدخلات الخارجية، فضلًا عن مخاطر تفشي جائحة كورونا التي لم تكتمل فصولها بعد.

وقد بات لبنان أمام واقع من أبرز عناوينه السياسية: أزمة قوى السلطة وفشلها الكارثي في إدارة الدولة التي دمرتها وأفسدتها، وخرقت الدستور والقوانين. ورهنت لبنان أكثر فأكثر للخارج في انتظار تسوية دولية – إقليمية.

لا تتجاهل الوثيقة واقع “حزب الله” في المنظومة وقيادته للأحداث وتأثير ذلك على 17 تشرين. في موازاة سعي قوى سلطوية أخرى ذات مرجعيّات خارجية مختلفة وتنتظر بدورها مآلات التحوّلات الخارجية، لاستثمار “الثورة” والتلطّي خلفها وغلغلة خطابها الفئوي ضدّ خصومها في المنظومة.

وتناقش الوثيقة انقلاب قوى السلطة على “ثورة 17 تشرين الأول 2019” وخاصة على البعد الوطني العابر للتقسيمات المناطقية والمذهبيّة التي كرّستها تلك القوى وتؤججها لحماية مصالحها وتحالفاتها الخارجية، على حساب الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وهي تخلّت عن الناس حتى في قضايا وطنية وإنسانية كبرى في مقدّمها انفجار مرفأ بيروت والتحقيق بشأنه وتنفيذ العدالة، فما بالك في قضايا النهب والفساد والإفساد والإهدار.

ثمّة إطلالة اقتصادية طويلة من قبل المؤتمرين على أسباب الانهيار بفعل ممارسات السلطة وسياساتها النقدية والمالية والإدارية، ما يترافق مع تراجع الاستثمار العام والخاص وانهيار مصرفي ومالي ونقدي، إضافة إلى ترسّخ التضخم وانهيار سعر صرف اللّيرة اللّبنانية والتراجع القياسي في الاحتياطات الخارجية. وهو ما يدفع فئات واسعة، شبابية خاصة، ومن حملة الشهادات، إلى الهجرة، ولعلّ هذا مكسب لقوى السلطة.

وفي ظل إفقار اللّبنانيين وارتفاع أعداد البطالة وتدني قيمة الدخل، يتفق المشاركون على أنّ الخروج من الأزمة يكون بناء على محاسبة المتسببين بها. وهناك ضرورة لتأليف حكومة مستقلة عن قوى السلطة والخارج، من أشخاص نزيهين ويمتلكون الخبرة والقرار. والمهمة العاجلة لتلك الحكومة وضع خطة لوقف الانهيار والمعالجة. أمّا مهمتها الثانية فهي إجراء الانتخابات النيابية والبلدية في المواعيد المحدّدة، مع تأسيس هيئة مستقلّة للانتخابات والاقتراع في مكان الإقامة وتنظيم مشاركة المغتربين.

وراوحت آراء المؤتمرين بين المطالبة بقانون خارج القيد الطائفي وتطبيق اتفاق الطائف لجهة القانون النسبي وعلى أساس الدوائر الكبرى وتأسيس مجلس للشيوخ والهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية. وتطوير معايير الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والرقابية والقضائية، والإلتزام بشكل خاص بإعادة بناء القضاء كسلطة مستقلة لمكافحة الفساد والنهب والهدر، خصوصًا الأموال المنهوبة والتحقيق في انفجار مرفأ بيروت. كما دعوا إلى إعادة هيكلة المصارف وأن تكون في خدمة الاقتصاد وليس العكس.

يطرح المؤتمر سؤالاً على المدى الطويل هو كيفية البحث في صيغة الحكم وتطوير الدولة، وتنوّعت الآراء فهناك من يطمح إلى دولة علمانية، ومن يرى بإلغاء الطائفية السياسية، وثمّة من يرى إعادة النظر ببعض المواد الطائفية في الدستور لصالح مدنية الدولة..

وقد اتفق المؤتمرون على أنّ أزمة النظام أكبر من أن يتوافق عليها الخارج والداخل، أو بتسوية بين القوى الخارجية – المحليّة تجدّد النظام، وهي تحتاج إلى عقد سياسي جديد عبر حوار وطني يحدّد هوية الدولة من دون أن يعرّض البلد لمخاطر الحروب.

وعلى سبيل واقع تيار الاعتراض تدعو الوثيقة إلى تطوير الحوار وتوثيقه إضافة إلى البحث عن سبل التعاون والتنسيق والإرتقاء إلى معارضة سياسية. وأكّد المؤتمرون على مطلب وحدة تلك القوى في وجه قوى السلطة التي تتوحّد لقمعه.

سيُطلق المؤتمر ورشته الحوارية السياسية والتنظيمية في المناطق اللّبنانية وسيعمل على تجاوز الانقسامات لا سيّما العقائدية، والهدف بناء معارضة تلاقي انتخابيًا الصوت الشعبي الذي عبّر عن نفسه في استحقاقات نقابية عدّة. وثمّة دعوة إلى الانتظام في أشكال ديمقراطية تحفظ التنوّع الفكري والثقافي والسياسي وتوحّد الجهد والفعل، وبأهداف محدّدة. ويعتبر المؤتمر نفسه أحد هذه الأشكال التي يحثّ جميع من ينشد التغيير إلى العمل والحوار ضمنها.

 

معالجة عقلاينة للمقاومة

 

وفتحت الورشة حوارًا تحت عنوان المقاومة والعلاقات الخارجية. فأكّد المؤتمرون أنّ الدولة هي المشروع والمرجع، وتقوم ومؤسساتها بحماية لبنان وإدارة العلاقات الخارجية.

وإذ شدّدت الدعوة على معالجة موضوع المقاومة بعقلانية، حفظا لسلم لبنان المجتمعي والسياسي، دعا البعض إلى الفصل ما بين المقاومة، مبدأ، وحزب الله. كون المقاومة هي حق يتفق عليه اللّبنانيون، في حين أنّ الحزب هو قوّة سياسية لبنانية يختلف اللّبنانيون مثل كل القوى السياسية، في شأنها. وهذا الأمر ضروري لحماية التنوع وبناء المعارضة، ومن دون ذلك سيبقى كثيرون ومن ضمنهم الحزب، وجمهوره، يرفضون أي نقد سياسي بحجة أنّه نقد للمقاومة التي يجب ألّا تكون مذهبية، بل عداءً لها.

والتقى المؤتمرون على ضرورة معالجة الموضوع بعقلانية وإنتاج خطاب وطني جديد في هذا الشأن لا ينتقص من الدولة ولا يتنازل في الوقت نفسه عنها.

وفي الأسابيع المقبلة مفترض أن يتوصل المؤتمر إلى صيغة تكفل التنوع وتوحّد العمل، وهو الذي سعتبره المؤسسون مساحة حوار وعمل تعاقدية وليست حزبية أو انتسابية، مثلما هي مساحة متنوّعة فكريًا.

وسيعمل المؤتمرون في إطار مجموعات مناطقية هي التي تعمل على القضايا التي تبناها المؤتمر ثم يتم انتخاب مندوبين لتتمثل في لجنة القضاء كل سنة أو عندما تقتضي الحاجة. وسيكون هناك لجان الأقضية التي تعمل على التشبيك بين المؤتمرين في مختلف المناطق، ثمّ الهيئة التنسيقية التي تحمل كمهمّة مركزية التحضير للمؤتمر سنويًا.. كما ستكون معنية بمسائل مثل الاحتياجات المالية وسبل تأمينها.

 

عمار نعمة

 

 

عمار نعمة

كاتب سياسي لبناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى