بين ذكريات الحرب ومأساة الانهيار الاقتصادي… تفاصيل يوميّة سنعيشها من جديد
في وقتٍ يطلق فيه جيراننا مسباراً نحوّ المريخ، ويشيدون الأبراج وناطحات السّحاب، نعدّ نحن العدّة للعودة إلى عصر ما قبل الحداثة، في استعادة لذكريات الحرب اللبنانيّة، يوم نجح اللبنانيون في تطويع الأزمة، واستعاضوا عن الشمعة بمصباح فلوريسون يضاء عبر بطاريّة السيّارة، قبل أن تنتهي الحرب وبدل أن تضاء الكهرباء على مدار الساعة، اخترعوا ما يسمى كهرباء الإشتراك، التي سيكون لها الكلمة الفصل في تحديد أمسياتنا المظلمة خلال أيام.
يذكر اللبنانيون الذين عايشوا الحرب، أنّ الأمور رغم قسوتها كانت تبدو أكثر رحمة ممّا هي عليه اليوم، كان يومها البلد يغرق في فوضى الحرب، وكان عليهم أن يرضوا بالقليل.
لم يكن ثمّة أنترنت وفضائيات، تخبرهم أنّ الكوكب يعيش عصر الحداثة، وأنّهم من هواتفهم النقّالة وشاشات اللابتوب يتفرّجون على التطوّر العلمي والرخاء والرّفاهية التي عاشوها سنوات قبل أن ينهار البلد، ويتحسّرون.
لم يكن ثمّة هواتف نقّالة تصل اللبنانيين بالعالم، لتخبرهم أنّهم يعيشون في القاع وغيرهم يحلّق. كانوا يكتفون بالقليل ويحلمون بغدٍ أفضل، وأنّ الحرب ستنتهي وسنعيد بناء لبنان الأخضر، وسنتعلّم من تجاربنا، ولن نقع في المحظور من جديد.
كانت الفلوريسون تضيء كل البيوت، باستثناء منازل قليلة اشترى أصحابها الموتورات ليضيئوا عتمتها إن توفّر البنزين، يخبر اللبنانيون الذين لا زالوا يذكرون تلك الحقبة، أنّهم اعتادوا مشاهدة التلفزيون بالأبيض والأسود عن طريق وصله ببطارية السيارة، وأنّ الأمور ظلّت تسير على هذا المنوال سنوات.
يقولون إنّ المناخ كان معتدلاً، كانوا ينامون حتى من دون مروحة في ظل انقطاع التيار الكهربائي، بينما اليوم، مع التغيّر المناخي، أصبحت المكيّفات داخل كل بيت بعد أن كانت حكراً على الأثرياء فحسب. تفصيل يخبرنا بما ينتظرنا في ليالي الصيف الحارة، حيث لا مروحة ولا مكيّف والحرارة تغلي.
يذكر اللبنانيون أنّهم تخلّوا في أيام كثيرة عن برّاداتهم، التي لم يكن يصلها التيار الكهربائي، يشترون أغراضهم كل يومٍ بيومه. أما اليوم، فالسّلع تنقطع واحدة تلو الأخرى، وأسعارها تحلّق، كثيرون لجأوا إلى تخزين المواد الغذائيّة، بعضها يحتاج إلى الحفظ بالثلاجة. يدركون أنّ معظم الأغراض التي اشتروها وظنّوا أنّهم بأمان، باتت أغراضاً قابلة للتلف.
ويذكرون مقارنة بالوضع الحالي أنّ أولادهم كانوا يدرسون على ضوء الشمعة، على هذا الضّوء الخافت تعلّموا وتخرّجوا من الجامعات وتبوّأوا مناصب.
أما اليوم، فالتعليم بات أونلاين في عصر الوباء، أي انقطاع للكهرباء يعني انقطاعاً للأنترنت، يعني خروج التلميذ من دائرة الأونلاين إلى ظلام حالك لا تنفع معه شمعة ولا مصباح فلوريسون.
يذكر اللبنانيون الذين عايشوا تفاصيل الانهيار المالي في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات أنّ العملة تهاوت، وأنّ غلاء المعيشة كان خانقاً، لكنّهم يقولون إنّها كانت أياماً أرحم من تلك التي نعيشها اليوم. لم تكن المصارف مفلسة، ولا مرافق الدّولة، فكان الناس يساعدون بعضهم البعض، بينما اليوم حتى الغني أصبح فقيراً.
يذكرون أنّ الدّول كانت تعقد اجتماعات للتبرّع للبنان، وأنّ المساعدات كانت تصل إلى كلّ بيت، بينما اليوم بات لبنان عبءاً على محيطه، يخبرنا انفجار المرفأ أنّ أمماً تداعت إلى اجتماع لمساعدة المنكوبين، فكان ما تبرّعت به لا يكفي حتّى لرفع الرّكام من المناطق المتضرّرة.
يذكرون أنّه كانت لدينا مصانع، كانت الصناعات الغذائيّة اللبنانيّة تصدّر منتوجاتها إلى كل دول العالم في عزّ الحرب، ثم انتهت الحرب وجاءت سياسات ماليّة جديدة تقول للبنانيين أقفلوا مصالحكم وشمّعوا صناعاتكم الوطنيّة بالأحمر، وضعوا أموالكم في المصارف، هنا ستحصلون على فوائد خياليّة لن تحصلوا عليها من صناعتكم وتجارتكم ولو وصلتم إلى المرّيخ. ثم بدأنا نستورد كل شيء، وبات ارتفاع سعر الدولار يعني ارتفاع سعر كل شيء باستثناء الهواء الذي نتنفّس.
أمّا الخسارة الأكبر فكانت في النّفوس، كان الأمل دائماً حاضراً، أنّ الحرب ستضع أوزارها وسننهض من جديد، بينما أيقن اللبنانيون اليوم، أنّ أي نهوض يتبعه سقوط، وأنّ السّقوط من أعلى كان مؤلماً أكثر، وأنّنا لم نصل بعد إلى القاع ولا نعلم ماذا ينتظرنا في جحيمه، نعلم فقط أنّ الأمل انقطع، يومها قال زياد عن “انقطاع الأمل الباقي بهاليومين”… “مننطر لسنة الألفين”، وبعدها بعقدين لم نعد ننتظر شيئاً.
أما المفارقة أنّ الثوابت الوحيدة بين لبنان الحرب الغارق في الظلام، ولبنان القرن الحادي والعشرين العائد بخطى حثيثة نحو العصر الحجري، هو وجوه السياسيين نفسها. أطال الله بعمرهم، وأمدّهم بصحّة، فظلّوا في كراسيهم يحكمون، وعلى طريقة التلميذ الكسول، يعيد أخطاءه نفسها وليس ثمّة معلّم يحاسبه، ويُرفّع تلقائياً… وفي الملعب يرن الجرس ليخبر التلاميذ والمعلّمين أنّه خيرٌ لهذه المدرسة أن تدكّ ويعاد إعمارها بطاقم جديد… وتلاميذ جدد يحفظون الدّروس ولا يكررون الأخطاء نفسها.