السلاحف “تعشق” شاطئ المنصوري .. موسم تعشيش غير مسبوق
من على شاطئ حمى المنصوري في قضاء صور تبدع الطبيعة، وتزهو وتتألق. هنا، حيث يدنو الغروب كأنّه يلهو بين زبد الموج ولوحات الرمل المتجددة، يتماهى الجمال بالجمال، مدىً حيوياً يرسم بعض حدود هذا “الإبداع”، وتعيدنا الطبيعة إلى منابع الدهشة، كما لوحة رسام يطل منها البحر صاخباً وتبتهل الشمس خارج إطارها، فهل ندرك قيمة ما نملك من شواطئ؟ أو على الأقل هل نحمي ما بقي منها؟
يبقى شاطئ حمى المنصوري على صغره متنفساً للسلاحف خصوصاً، وللبيئة البحرية الشاطئية بشكل عام، حتى بات مؤشراً على “صحة” البحر. السلاحف كائنات مسالمة رائعة، وفي حضورها الموسمي للتكاثر ووضع بيوضها إنّما تعكس واقع النظام الإيكولوجي عموماً، لا سيّما وأنّ البحر صار مرتعاً للنفايات، فيما الشواطىء مستباحة من قبل منتجعات عشوائية، ودون تنظيم في حده الأدنى، وليس بينها ما يعنى بالسياحة البيئية، فوضى واستثمارات نفعية وضوضاء دفعت السلاحف للتعشيش في بلدان مجاورة، فتراجعت أعدادها وبدأنا نخسر “خدماتها” في بحرنا، كونها العدو الأول لقناديل البحر، وهي عرضة دائما للاختناق بالنفايات البلاستيكية وشباك الصيادين، فضلا ًعن تعرضها لأذى مباشر من مرتادي البحر.
نموذج حمى المنصوري
جاء هذا العام مخالفاً للتوقعات، ويبدو أنّ جائحة كورونا برغم ما خلّفت من مآسي ولا تزال، كانت لها نتائج إيجابية على الواقع البيئي في العالم، فتراجعت نسب التلوث في الهواء، الأمر الذي وثقته مراكز أبحاث عالمية، ذلك أنّ تراجع النشاط البشري بفعل الجائحة انعكس إيجاباً على مجمل قطاعات الحياة، وكانت البيئة المستفيد الأول.
وإذا أخذنا حمى شاطئ المنصوري نموذجاً، نتأكد أنّ إقفال أحد المنتجعات القريبة وغياب روّاد البحر شكّل مفاجأة من حيث عدد السلاحف التي وضعت بيوضها، ومثل هذا الأمر ليس مجرد تفصيل، وإنّما يرتّب على الدولة مسؤوليات كبيرة تجاه الحياة البحرية والنظر إلى البحر كثروة طبيعية لاحقاً، إن لجهة قطاع الصيد البحري، وإن لجهة التنوع الحيوي.
في لبنان هناك نوعان من سلاحف البحر، “السلحفاة ضخمة الرأس” Loggerhead Sea Turtle واسمها العلمي Caretta caretta و”السلحفاة الخضراء”Green Sea Turtles، واسمها العلمي Chelonia mydas، وتقول الناشطة في حمى المنصوري وحامية هذا الشاطئ منى خليل: “لقد تمكّنا عبر جهودنا بالمحافظة على الشاطئ وحماية الأعشاش من وضع شاطئ المنصوري على الخارطة العالمية للسلاحف البحرية، خصوصاً وأننا نتشارك البيانات التي نجمعها مع جهات عالمية لتوثيقها”.
وتضيف: “الموسم الماضي كان هناك 12 عشّاً بينها اثنان من نوع Green Turtles، أمّا هذه السنة فقد وصل العدد إلى 36 عشاً، بينها 16 من السلاحف ضخمة الرأس و20 من السلاحف الخضراء، وقد علّلنا السبب بالإقفال بسبب كورونا وعدم ارتياد الناس للشاطئ، بالإضافة إلى المنتجع الذي ومنذ إنشائه والموسم يتأثّر بالأضواء التي يطلقها، والتي حاولنا مراراً وتكرارا التخفيف منها، علما أن معدل أعداد أعشاش السلاحف في المنصوري وقبل إنشاء هذا المنتجع كان يتراوح بين 40 و50 عشا، ولكن الآن بسبب أزمة كورونا، فقد توقفت التجمعات التي تتسبب بالضوضاء ليلاً، وقد يكون ذلك هو السبب في ارتفاع عدد الأعشاش، ومثل هذا الأمر بحاجة إلى المزيد من الدراسات”.
ازدياد أعداد الأعشاش هذا العام
وأشارت خليل إلى أنّه “من اللافت هذا العام ارتفاع أعشاش السلاحف الخضراء، وهذا لم نشهده خلال 20 عاماً من متابعتنا الشاطئ وأعشاش السلاحف’ وللمفارقة بلغ العدد 20 عشا في العام 2020، وقد أثار هذا الرقم استغراب الزملاء والباحثين في هذا المجال الذين نتعامل معهم في الخارج”، وقالت: “أن يكون في شاطئ طوله 1.4 كلم، ومعظمه صخري، أي لا يصلح لتعشيش السلاحف، فهذه النسبة تعتبر الأعلى عالمياً، علماً أن كل المعلومات والبيانات موثقة ومنذ 20 عاماً، وتتم مشاركتها مع المراجع العلمية المختصة”.
ورجحت خليل أن تكون ثمة عوامل كثيرة وراء هذه النسبة العالية، كالتغيّر المناخي والتغيّرات في المجال المغناطيسي للأرض وغيرها، وجميعها تحتاج للمزيد من الدراسات”.
عن موسم التعشيش والفقس
وعن موسم تعشيش السلاحف والفقس عموماً، قالت خليل إنّه يبدأ من الأول من أيار (مايو) ويمتد حتى أواخر أيلول (سبتمبر)، ولكن الذروة تكون خلال أشهر حزيران (يونيو)، تموز (يوليو) وآب (أغسطس)، لافتة إلى أنّ “السلحفاة الضخمة الرأس تبيض بمعدل 70 بيضة بينما الخضراء 120 بيضة علماً أن بيضة الخضراء أكبر، ويتطلب البيض بين 45 يوم و60 يوماً ليفقس، وهناك حالات قد يفقس فيها البيض في أقل من 45 يوما كحالة أحد الأعشاش الذي فقست فيه البيوض في اليوم 44”.
ونوّهت خليل إلى أنّ “المتطوعين يتابعون خروج السلاحف إلى الرمال عبر تتبع آثارها، ويمكنهم تمييز النوعين، و”نتتبع بدورنا الآثار لنكشف على العش، ونقوم بإجراءات حماية له، لينجو العدد الأكبر من الافتراس وخصوصاً من الثعالب. وهناك علامات لفقس البيض حيث يتم انخساف الرمال، كما نشاهد آثار الثعالب على الشاطئ، والتي تحاول الحصول على السلاحف الصغيرة كغذاء، حيث نقوم حينها بنقل السلاحف الصغيرة إلى غرفة مجهزة بعوامل معينة من حرارة وغيرها داخل “البيت البرتقالي” الموجود في الحمى ليتم إطلاقها في أقرب وقت، ولا نتركها خوفاً من الثعالب والمفترسات”.
وقالت: “نحاول أن نستقطب في عملية الإطلاق أكبر عدد من المهتمين وخصوصاً الأطفال، للمشاركة في هذه التجربة الرائعة، ونقوم بتقديم شرح مفصل لزيادة الوعي البيئي لديهم وإثارة الفضول العلمي بالإضافة إلى تشجيعهم للمحافظة على البيئة، بالتخلص من استخدام البلاستيك والقاء النفايات التي تضر البيئة ولا سيّما النظم البحرية وكائناتها وخصوصا السلاحف”.
انفجار المرفأ وبيوض غير ملقّحة
وقالت خليل: هناك أمران غريبان هذه السنة، أولهما حدث اثر انفجار المرفأ في 4 آب (أغسطس) وهو خروج 3 سلاحف إلى الشاطئ من نوع Caretta caretta دون أن تضع بيضاً، وقد حدّدنا نوعها وفقا لخبرتنا من خلال الآثار التي تخلّفها على الرمال، وأظن أن السبب هو هذا الإنفجار، إذ عادة لا تخرج السلاحف من الماء إلى الشاطئ إلا لوضع البيض، أو إذا كان ثمة أمراً غير اعتيادي في البحر، أما الثاني فهو أن أحد الأعشاش وجدنا أن ¾ عدد البيض فيه غير ملقح Unfertilized، وهذا أمر نعهد مثله خلال متابعتنا للسلاحف على مدى 20 عاماً، ومن الممكن أن يكون الأمر له علاقة بصحة الأم وتأثرها بالتلوث والمواد الكيميائية والنفايات وخصوصا البلاستيكية، وعدة عوامل أخرى”.
ولفتت خليل إلى أنّ “جنس السلحفاة لا يمكن تحديده إلاّ عند البلوغ، أي في عمر بين 25 و30 سنة، حيث تعود إلى مكان فقسها للتزاوج، وللأسف فإنّ النسبة التي تصل إلى البلوغ لا تتجاوز 1 بالألف، لذا فهذه السلاحف معرضة للإنقراض بشكل كبير”.
وختمت خليل بالدعوة إلى التخلّص من النفايات بطريقة سليمة، وخصوصاً الطبية التي وصلت كمية منها من شواطئ العدو الإسرائيلي، وطالبت الدولة “برفع دعوى عالمية على إسرائيل التي تستمر برمي نفاياتها الطبية والتي صادرها المعنيون، دون معرفة مصير التحقيق حتى الآن”.
باريش: نتائج إيجابية ومشجعة
ومن جهته، قال الخبير في العلوم البحرية والأستاذ في كلية العلوم البيولوجية في الجامعة الأميركية البروفسور ميشال باريش لـ “أحوال ميديا”: “النتائج إيجابية للغاية ومشجعة، ولا شك أنّ العناية بشاطئ المنصوري والإهتمام والمثابرة خلال السنوات الماضية، كان لهما تأثير إيجابي، ولكن لا يوجد تفسير علمي حتى الآن، كون هذا الأمر بحاجة للمزيد من الأبحاث، وبحاجة إلى الوقت أيضاً لمعرفة ما إذا كان سيتكرر هذا الأمر خلال السنوات القادمة”.
وعند سؤاله عن عدد السلاحف الخضراء التي لم يشهدها الشاطئ من قبل، أجاب باريش:” ننتظر أن يتكرّر الأمر، ومتابعة الشواطئ الأخرى التي تعشش فيها السلاحف وأعدادها، لنتأكد أنّ العدد لهذه السلاحف وغيرها قد زاد فعلاً، وقد يكون سبب خروج هذه السلاحف لوضع البيض، له علاقة بعدم ارتياد الناس للشاطئ كما من قبل بسبب كورونا، بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء وعدم وجود أضواء”. ولفت أنّ السلاحف لا تقترب طالما يتواجد بشر، حيث تنظر إليهم كمفترسين، ولا شكّ أنّ صحة النظم البيئية تساهم في زيادة أعدادها، ولكن المهم متابعتها على المدى البعيد.
أنور عقل ضو