التاريخ دائما يعيد نفسه، لكن مدّة الدورة الزمنية في لبنان هي خمسة عشر عاماً. فتبدّل الموازين وتغيّر المعادلات منذ استقلال لبنان سنة ١٩٤٣ يحدث كلّ عقد ونصف.
خمسة عشر عاماً فصلت بين عام ١٩٤٣ وأحداث سنة ١٩٥٨.
سبعة عشر عاماً فصلت بين عام ١٩٥٨ ونشوب الحرب الأهلية عام ١٩٧٥.
خمسة عشر عاماً دامت الحرب الدامية، من ١٩٧٥ حتّى العام ١٩٩٠.
خمسة عشر عاماً منذ تبدّل الموازين وختم الحرب الأهلية عام ١٩٩٠ حتّى اغتيال الرّئيس رفيق الحريري سنة ٢٠٠٥.
وخمسة عشر عاماً منذ ٢٠٠٥ حتّى اغتيال الشعب اللبناني بانفجار مرفأ بيروت عام ٢٠٢٠.
كثيرة هي القواسم المشتركة بين هذه الأحداث.
ففي هذه التّواريخ أُطلِقت رصاصات، ودوّت إنفجارات، وتبدّلت توازنات، وانقلبت معادلات، ورُكِّبت محاصصات. فأشخاصٌ كانوا فزالوا، ورؤساء تزعمّوا فاستقالوا، وزعماء ارتفعوا فهبطوا.
كما أنّ كلّ تحوّل بالموازين وزعزعة للإستقرار كان مرتبطاً بعاملٍ خارجيّ عصف بلبنان.
استقلال لبنان كان مرتبطاً بشكل أساسي بالتنافس الفرنسي-البريطاني في الشرق الأوسط.
أحداث ١٩٥٨ وقعت وسط شدّ الحبال بين الرّئيس المصري جمال عبد الناصر وحلف بغداد.
الحرب اللبنانية وقعت بعد حرب تشرين بعامين واستُخدم لبنان كمنصّة انطلاق للعمليات ضد إسرائيل. العامل الفلسطيني كان أساسياً فيها وكان لبنان بحدّ ذاته أرض المعركة.
عاما ١٩٨٩-١٩٩٠ شهدا تبدّل جذري في إنهاء الاقتتال وإنشاء نظام جديد للحكم وكان ذلك برعاية خارجية.
اغتيال الرّئيس الحريري عام ٢٠٠٥ كان نتيجة تأزّم الصراع في المنطقة بعد اجتياح العراق والضغط لخروج سوريا من لبنان ومحاولة إخضاع حزب الله.
انفجار المرفأ عام ٢٠٢٠ سيكون كسابقاته، نقطة انطلاق لقلب الأمور رأساً على عقب.
كلّ ما يحدث مرتبطاً بشكل أو بآخر بصفقة القرن. ليس المقصود التفجير بحدّ ذاته، الذي يبدو أنّه حدث ناتج عن إهمال ينمّ عن اهتراء الدّولة من رأس الهرم إلى أسفله، وأيضاً بسبب الحركة الدّولية والضغوط التي بدأت منذ ما قبل ثورة ١٧ تشرين مروراً باستقالة الحريري إلى تشكيل حكومة حسان دياب
وإسقاطها. بالإضافة إلى العقوبات المتتالية على حزب الله ومحاولة إخضاعه، لا بل أيضاً كلّ ما هو مرتبط بقانون قيصر وارتداداته على لبنان.
الضغط يزداد على الجميع. إيران، سوريا ولبنان في أزمة إقتصاديّة لا سابقة لها. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مأزوم داخلياً ولم يتردّد بتنفيذ ضربات جوّية ضد أهداف تابعة لإيران وحزب الله في سوريا. كما هي حال مع الرّئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يحاول جاهداً رفع أسهمه قبل الانتخابات الرئاسية.
باستثاء احتمال وقوع خطأ ما أو قرار مفاجئ، تبقى إمكانية وقوع حرب ضئيلة، على رغم التشنّجات المذكورة أعلاه.
لكن الأهم من ذلك هو أن ما نشهده منذ أشهر وما سيأتي هو رسمٌ جديد لموازين قوى وتحوّلات جذرية بدأت تحوم فوق لبنان. فقد أعلنها الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يحاول جاهداً إعادة دور فرنسا الذي فقدته منذ عقود قائلاً: “يتحدّد الآن مستقبل لبنان”.
القاسم المشترك بين هذه التواريخ أيضا أنّها تدفع خيرة الشباب اللبناني إلى الهجرة وترك بلادٍ خذلتهم، وكانت أيضاً مقبرةً لمشاريع ومسيرة اعتقدوا أنّهم سيجهدون لتحقيقها كي يكتشفوا أنّها مجرّد أحلام متبخّرة.
كما وتُنعم في نفس الوقت أهل القتل والدّمار بخيراتها وتغزّي استمرارهم وديمومتهم في وطن كانوا زعماءه في الحرب والسلم.
ففي وطن الخمس عشرة سنة، أقصى ما يمكنك فعله هو الرّحيل في العام الرّابع عشر أو البقاء لشرف المحاولة.
وعلى من يبقى أن يحذّر الأجيال القادمة من مفاجئة العام ٢٠٣٥. اذا بقي من يُخبِر.
هادي وهاب