“قصقص ورق ساويهم بلديات”… كورونا والانهيار يفضحان المنظومة
منذ 17 تشرين 2019، سقطت بشكل متسارع منظومة الدولة الكرتونية التي عاش فيها اللبنانيون وإنكشفت عوراتها الإقتصادية والمالية والإجتماعية والصحية والتربوية والإدارية. فراحت تتكشّف أوجه الفساد المستشري، فهو ليس حصراً مالاً منهوباً أو مهدورأ، ولا زبائنية أو محسوبية، ولا إهمالاً أو تلكؤاً في القيام بالمهام، بل ايضاً تحايل على القانون وتكاذب على الوقائع وإيهام الناس بوجود إدارات كبعض البلديات التي ليست سوى تنفيعات لا تملك أدنى مقومات الإنتاجية والديمومة.
لقد أظهرت مسارعة الدولة الى الإستنجاد بالبلديات – كسلطة محلية للمساعدة في تطبيق الإجراءات التي وضعت للحد من إنهيار الأمن الاجتماعي ومن تفاقم جائحة كورونا – هشاشة الجسم البلدي اللبناني عموماً من حيث إطار العمل المؤسساتي والإداري والقدرات المالية والبشرية رغم الصورة المشرّفة للعديد من البلديات التي تحوّلت خليّة نحل معتمّدة على نخوة الأهالي والبعد التطوعي من جهة وعلى التبرعات المالية والعينية من داخل وخارج لبنان من جهة أخرى.
صحيح أن للبنان باعاً طويلاً في العمل البلدي – حتى قبل قيام دولة لبنان الكبير- إذ تعتبر بلدية دير القمر التي تأسست عام 1864 الاولى في الشرق الاوسط، ولكن له باع طويل أيضاً بالتعطيل وعدم إحترام الإستحقاقات الإنتخابية إذ لم يتمّ إجراء أي إنتخابات بلديّة منذ عام 1963 حتّى عام 1998. كذلك، يعاني من البطء في تحديث القوانين حيث بعضها يعود لحقبة العثمانيين. أما قانون البلديات المعمول به فأُقرّ عام 1977 وعُدّل عام 1997. بعدها، تمّ طرح مشاريع قوانين لكنّها ما زالت قيد الدرس في البرلمان حتّى الآن.
والأخطر عوض تعزيز الشفافية في إنشاء البلديات عبر إعتماد معايير واضحة، تمّ إلغاء البند الثالث من قانون 1977 – الذي كان ينص على بعض المعايير وإن كانت بحاجة الى تحديث – بموجب المادة 45 من القانون رقم 665 الصادر في 30 كانون الأول 1997. لكنّ لم يتمّ إستبداله ما جعل وزير الداخلية الآمر الناهي بإنشاء البلديّة بقرار منه بمجرد أن تكون المدينة أو القرية وارد ذكرها في الجدول رقم (1) الملحق بالمرسوم الاشتراعي رقم 11 تاريخ 29/12/1954 وتعديلاته الذي يحدد البلدات اللبنانية.
فراحت البلديات تنبت كالفطريات بعد الطائف مع بعض وزراء الداخلية الذين قرروا إنشاءها رغم أنها لا تملك أدنى مقومات الإنتاجية والإستمرارية، فصحّ بهم القول “”قصقص ورق ساويهم بلديات” – بعضها في مناطق نائية لا مداخيل لها ولا يتعدى عدد الناخبين مئة. كما عمد الى نفخ عدد الأعضاء ضارباً بعرض الحائط القانون، وذلك إما لإرضاء الناخبين أو الباحثين عن وجاهة أو لتأمين أموال للإنماء عبر الإعتماد على المداخيل غير المرتبطة بالبلديات مباشرة.
حجم المجالس البلدية |
9 أعضاء للبلدية التي يقل عدد ناخبيها عن الـ 2000 شخص. |
12 عضواً للبلدية التي يتراوح عدد ناخبيها بين 2001 و4000 شخص. |
15 عضواً للبلدية التي يتراوح عدد ناخبيها بين 4001 و12000 شخص. |
18 عضواً للبلدية التي يتراوح عدد ناخبيها بين 12001 و24000 شخص. |
21 عضواً للبلدية التي يزيد عدد ناخبيها عن 24000 شخص. |
24 عضواً لبلديتي بيروت وطرابلس. |
ممثل “المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية” في لبنان DRI الدكتور أندره سليمان أكد عبر “أحوال” أن ليس عدد الناخبين أو المكلفين (المالك أو المستأجر للسكن أو العمل) في نطاق بلدي هو المعيار لإنشاء بلدية بل المهم أن تكون البلديات قابلة للحياة ومستدامة مالياً وإدارياً عبر توفّر مصادر مداخيل مالية وضريبية كافية كي تقوم بتوظيف الملاك الإداري الأساسي للقيام بمهامها التنموية والإدارية كتأمين التنقل والسلامة العامة والشرطة وإدارة النفايات والصحة. كما يعتبر أن قانوناً واضحاً لتحديد شروط ومعايير إنشاء البلديات وحده يحّد من إستنسابية أي وزير داخلية أو جموحه.
دمج البلديات أو الإنضواء في إتحادات؟!
في لبنان نحو 1056 بلدية و58 اتحاد بلديات و1338 بلدة اي نحو 260 بلدة لا بلدية لها ولا تتوفّر الشروط في الأكثرية الساحقة منها وفق سليمان الذي يؤكّد أن رقم البلديات مرتفع في بلد بحجم لبنان وعدد سكانه إذا ما قورن عالمياً وأن الإتجاه المجدي هو نحو دمج بلديات البلدات كبلدية جونية التي تضم 4 بلدات: صربا، غادير، حارة صخر وساحل علما، حيث تمثيل كل بلدة محفوظ وفقد مقاعد محددة مشيراً الى أن على السلطة المركزية تأمين الحوافز للتشجيع على ذلك.
يتابع: “الدمج هو المنحى الرائج في العالم من أجل الفعّالية والإعتماد على التكنولوجيا وتعزيز السياسات. علينا أن نختار إما أن نبقى بالفكر العشائري والعائلي وتبقى لدينا بلديات غير مجدية و”بلا طعمة” أو للوجاهة حيث يكون أقصى طموح رئيسها والأعضاء الحصول على اللقب، وإما نتخطى هذا الإطار البالي وننشئ بلديات تنكبّ على العمل. فعدد البلديات التي تنشأ وفق النموذج الأول ومنتجة لا تتعدى 5% وهي من البلديات الكبرى التي تمتلك موارد مادية”.
هل تكتل البلديات ضمن إتحادات يصلح أن يكون بديلاً عن الدمج؟ يفصّل سليمان الفرق بين الإثنين مجيباً: “الإتحاد هو إطار تنسيق وتعاون بين عدد من البلديات يحافظ كل منها على إستقلاليته وحرية قراره، وهو يهدف للقيام بمشاريع مشتركة لكنّ السير بها غير ملزم لكافة الأعضاء الذين بإمكان أي منهم الإنسحاب من الإتحاد متى أراد. كما أن القانون لا ينصّ على إلزامية إنتماء البلديات لإطار جغرافي كشرط لإنشاء الإتحاد. لكن الدمج يبقى أكثر إفادة لأنه يوحّد الطاقات والجهود وحينها تكتّل البلديات المدموجة في إتحاد يعطيه قوة إضافية”.
المداخيل عصب أساسي للعمل البلدي
المداخيل عصب أساسي للعمل البلدي ومصدرها الضرائب أو الغرامات أو الصندوق البلدي المستقل (الذي يجب إعادة النظر به) أو من أملاكها وإستثماراتها. وفي هذا الإطار، يشدّد سليمان على أن لبنان من البلدان الأدنى من حيث نسبة الضرائب البلدية، من دون إغفال التهرب الضريبي، مذكّراً أن جودة الخدمة التي ينتظرها المواطن مرتبطة بحجم الضريبة.
يضيف: “لذا يجب إعادة النظر جذرياً بكل المصادر الضريبية التي تغذي العمل البلدي وإعتماد نظام مالي جديد يعطي البلديات نسبة لا بأس بها من الضرائب التي تُسدَّد للسلطة المركزية أي يجب زيادة الضرائب التي تكون عائداتها للبلديات وتخفيف تلك التي تكون عائداتها للسلطة المركزية”.
كورونا تكشف مدى إهمال البلديات الجانب الصحي
هناك كثير من الامور الصحية من إختصاص البلديات ولكن ضعفها يترجم بغياب الوحدة الصحية في معظمها. وقد كشفت جائحة كورونا مدى إهمال الجانب الصحي من قبل البلديات الذي هو من ضمن مهامها وكذلك التقصير في تفعيل دور الشرطة البلدية الذي تم تهميشها وكان يمكن أن يحل عوض القوى الأمنية في تطبيق الإغلاق العام. هناك بلديات عملت على تعزيز دوره.
بعض النسب بحسب DRIحين كان عدد البلديات 1056 |
70% من البلديات لا يتخطى عدد المقيمين المسجلين فيها الـ4 الف نسمة |
45 % من البلديات يكاد لا يضم أكثر من 2000 نسمة على أبعد تقدير |
38% من البلديات حيث لا يضم سوى موظف بلدي واحد |
%75 من البلديات منضوية في 58 اتحاداً |
موازنة 66% من البلديات لا تزيد على 100 مليون ل.ل. |
63-70 % من الموازَنة مخصصة لاعمال بنية تحتية أساسية |
الإصلاحات البنيوية التي لا مفرّ منها لإنطلاق قطار الإنقاذ تتضمن إعادة هيكلة على أكثر من صعيد كالمصارف والقطاع العام، ويبدو أن البلديات في لبنان ليست أفضل حالاً وتحتاج الى إعادة هيكلة تعتمد على الدمج الى جانب تعزيز الصلاحيات والدعم والتمويل. لكن في إنتظار هذه الورشة، ثمة ورشة أهم تقع على عاتق كل مواطن وهي التحرّر من العصبيات العشائيرة والعائلية وإنتخاب بلديات على أساس المشاريع الانمائية. فهل يشكّل العمل البلدي في المستقبل رافعة للواقع اللبناني؟