الجريمة السياسية بين الأبعاد القانونية وتقاذف المسؤوليات
ارتكبها كثيرون في لبنان ويتبرّؤون منها. طلبها عديدون لتسريع الفعل السياسيّ وهالهم ثقل تبعاتها الأخلاقيّة. يتّهم الخصوم السياسيّون بعضهم بها لكنّهم يُمجدّون فاعليها.
إنها الجريمة السياسية!
هي بنظر السّلطة جريمة، وبنظر الاعتراض نضالٌ، وتستمرّ قضيّة إشكاليّةٌ، يتنازع عدالَتَها أطرافُ الصّراع، ويستثمر فيها كلّ طرفٍ، سواء بادّعاء المظلوميّة أم في الرّمي بالخيانة، وذلك لتبرير فعل ملتبسٍ؛ فالعدالة لم تُنِط بأيّ فرد أو جهةٍ مُهمّةَ القيام بالقضاء على المختلف.
تبرير الجريمة السياسيّة صعبٌ لكنّها تبقى آليّة لتعديل مسارات كبيرة في حياة الشعب؛ فكمّ من تيّار وحزب وفريق ضلّ مساره بتغييب قائده!
والأدهى أن كثيرين من اللبنانيين يُنصّبون أنفسهم قضاةً إلا أنّهم انتقائيّون في اتّهاماتهم، وناقصون في عدالتهم، وهم الذين لا يستذكرون من أهداف الجريمة السياسيّة إلا الموافقين في الهوى السياسيّ، ويتناسون الآخرين الذين طالهم الاغتيال لأسباب دنيئة أو عظيمة…
لمناسبة جريمة اغتيال الناشط لقمان سليم والتراشق الخطابي الذي تلاها، وقف “أحوال” على بعض ملامح الجريمة السياسية مع اختصاصيين في السياسة والنفس والقانون، وكانت الحصيلة الآتي.
د.بنوت: لا يُمكن تبرير الجريمة السياسية
يقول الدكتور جهاد بنّوت (مدير كليّة الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية – الفرع الأول) لـ”أحوال”: “يمكن تعريف الجريمة السياسيّة بأنها خرق للقانون العام كأيّ جريمة، خصوصاً قانون الجزاء. لكنّها تقع لأسباب سياسيّة بحتة، وتكون دوافعها سياسيّة كذلك. وقد تحصل بين مواطن ومواطن آخر، ينتمي كلّ واحدٍ منهما إلى حزب مختلفٍ ومعادٍ ومغايرٍ في أفكاره وإيديولوجيّته، كما قد تقع بين السّلطة الحاكمة القابضة على السلطة وبين مواطن، أو بين المواطن والسّلطة، حين يقوم مواطن معيّن بالاعتداء بجريمة معيّنة على السّلطة برموزها ورجالها أو بما هي سلطة….وهذا ما شهدناه في كثير من الأنظمة السياسيّة في العالم، لا سيما في الأنظمة السياسيّة العربيّة والأنظمة القمعيّة الديكتاتوريّة”.
وبرأي د. بنّوت: “لا يمكن أن نجد أيّ مبرّر لأيّ فعل جرميّ إلا في حالات الدّفاع عن النّفس، وإلا أصبحنا أمام أنظمة ديكتاتورية وفي ظلّ شريعة الغاب. وهنا، لا يمكن فصل الأمر دون التطرّق إلى الحرية السياسية، وبالأخصّ في حالات وحدود الحريّة السياسيّة. هل المواطن يُمكنه أن يتبنّى أيّ فكر حتى لو كان متطرّفاً سياسيّاً أو دينيّاً، وبلا حدود… وماذا عن العمالة؟ ليس على مستوى مدّ العدو بالمعلومات بل على مستوى تبنّي إيديولوجيات وأفكار سياسيّة لدول معادية…؟”.
آثار الجريمة السياسيّة في الأغلب سلبيّة!
يرى د. بنّوت أن “أيّ فعل جرمي يترك آثاراً سلبية في داخل المجتمع، ودائماً حسب الحالات والأمكنة التي يحصل فيها الجرم. ففي الأنظمة الديكتاتورية تؤدّي الجريمة السياسيّة إلى كمّ الأفواه وإخضاع الآخر للسلطة بالقوّة، تضمر قوّة المعارضة وقد تندثر، ما يؤدّي إلى فرار المعارضين إلى خارج البلاد. وقد تؤدي تداعياتها إلى أفعال انتقامية، لا سيما إذا كان الهدف الجرميّ اغتيال شخص ذي شأن سياسيّ ونفوذ حزبيّ. وقد وجدنا هذا الأمر في حالات متعدّدة في لبنان كإخفاء الإمام الصدر…واغتيال الرئيس رفيق الحريري… واغتيال كمال جنبلاط… واغتيال بشير الجميل…”.
ويُشير د.بنّوت إلى خطورة “استغلال الجرائم السياسية من قبل أطراف متعدّدة، قد تكون لها مآرب وأهداف سياسيّة خاصّة، وهذا ما نلحظه كثيراً على الساحة اللبنانية. وهذه الآثار المتعدّدة تكون دائماً سلبية على مستوى الداخل، وعلى مستوى المجتمع”.
لكن بنّوت يُبقي مجالاً لتوقّع إيجابيّ جرّاء الجريمة السياسية حيث يرى أن الاغتيال “قد يقوّي أتباع زعيم مستهدف، فينتج من ذلك انبعاثٌ وقوّة لصالح جماعته؛ وبالتالي تؤدّي الجريمة من حيث لا تقصد إلى تغيير في الأنظمة السياسية أو في المسار العام للسياسة، فنكون أمام منحًى إيجابيّ”.
د.غيّاض: الجريمة السياسية اعتداء على حقوق الدولة
من الجانب القانونيّ، يرى د. وسام غيّاض (أستاذ القانون الجزائي في كليّة الحقوق والعالوم السياسية – الجامعة اللبنانية) في حديثه إلى “أحوال” أن “الجريمة السياسية عمل سياسيّ يُجرّمه القانون، وأنّها تقع على الحقوق السياسية للدولة، أو بدافع توجيه سياسة الدولة نحو هدف معيّن؛ وبمعنى آخر هي صورة للنشاط السياسيّ الذي استعجل صاحبه تحقيقه فلجأ إلى الجريمة بدل اللجوء إلى أيّ عمل سياسي سلميّ”.
الجريمة السياسية ممارسة تاريخيّة
ويؤكّد د. غيّاض أن “الجريمة السياسية نشاط قديم ومعروف منذ زمن بعيد؛ والتطوّر المهمّ في هذا المجال هو تمييز المجرم السياسيّ بمعاملة أرحم من المجرم العادي، بناءً على مقاربة حديثة، لا سيّما أنّ هذا المجرم قد ينقلب من معارض مجرم إلى حاكمٍ وبطلٍ في لحظةٍ ما؛ وهذه حالات رأيناها في أوروبا وبعض الأنظمة العربيّة”.
ويُضيف: “تاريخياً، حتى القرن الثامن عشر (تحديداً في فرنسا) كان المجرم السياسيّ يعامل بقسوة كبيرة، لأن الحُكم كان فرديّاً وديكتاتورياًّ شموليّاً، في الوقت الذي كان التّضامن يسود العلاقات القائمة بين الأنظمة المتشابهة ذات الطبيعة الملكيّة؛ لذلك كان مجال استرداد المجرمين بين الدول يقتصر على المجرمين السياسيين”.
معيارا الجريمة السياسية موضوعيّ وشخصيّ
يُحدّد د. غيّاض منطق قانون العقوبات اللبناني في تعريف الجريمة السياسية فيقول: “ثمّة معياران أخذ بهما قانون العقوبات اللبناني أحدهما موضوعيّ، والآخر شخصيّ:
الأول ينظر إلى طبيعة الحقّ المعتدَى عليه، ويتحقّق عندما يكون هناك اعتداء على الحقوق السياسية للدولة باعتبارها نظاماً سياسيّاً، وفق تعريف المؤتمر الدوليّ لتوحيد العقوبات لعام 1935م، الذي يقول: “الجريمة السياسية هي تلك الموجّهة ضد نظام الدّولة أو مباشرتها لحقوقها، أو ضدّ حقوق المواطنين المستمدّة من هذا التنظيم”.
والثاني يركّز على الشخص ودافعه السياسيّ، ولو لم تكن الجريمة من جرائم القانون العام؛ ويُمكننا ضرب مثالٍ في هذا المجال كقتل رئيس الدولة لتغيير النظام….أوسرقة مالٍ لتمويل حزب سياسيّ…أمّا كلّ ما خرج عن هذين المعيارين فيُعتبر جريمة عادية”.
الجريمة السياسية خفيفة العقوبة ولا تبادل لمجرميها
ويُنهي د. غيّاض حديثه بالتأكيد أنّ “المشرّع اللبناني ألغى عقوبة الإعدام في الجريمة السياسّية واستبدلها بعقوبات سياسية أخفّ؛ واستثنى من التخفيف حالة وقوع الجريمة على أمن الدولة الخارجيّ؛ والعُرف الدوليّ قائمٌ على عدم تبادل المجرمين السياسيين”.
د.مكي: الجريمة السياسية تتّصل باللاوعي الجمعيّ
تقول الدكتورة رجاء مكي (اختصاصيّة في علم النّفس، ومنسّقة مركز الأبحاث في معهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانية)، أن “مقاربة الجريمة السياسية تعتمد على وعي الجريمة، وأستند على ما يكتبه “بول لوران أسون” الذي يحدّد أن الجريمة السياسية لا بدّ لها من أن تدخل في البُعد اللاوعي الجمعيّ”.
وتُضيف د.مكي: “على الصعيد الاجتماعي، الجريمة فعلٌ كسرَ النَّسَقَ العام الاعتيادي، وعلى ضوئه اهتزّت المعايير، وشعرت الجماعات بالقلق على اختلاف توجّهاتها”.
وحول ردود الفعل المحتملة في أوساط الناس، تقول د.مكي: ” أعمال الشغب نابعة في كلّ مجتمع من قوّة سلطته، ومن قدرتها القانونية على الضبط أو عدم الضّبط، لكن قبل الشعب هناك مرحلة الاستهجان، والمرحلة الثانية المطالبة بمعاقبة من قام بذلك، والمرحلة الثالثة هي كيف يضع النّاس أنفسهم مكان الذي قُتل، وتُصبح كلّ هذه المعطيات لها بُعد الخوف على الذات، قبل الخوف على الجماعة. وهذا المعطى أنتربولوجي يطال الإنسان في داخل المجموعة، من خلال رمزيّة الموقف، ومن خلال ما مثّلت للشخص والجماعة، وما هو موقعه، فتدخل في عملية لا واعية تطال رمزيّة كلّ سلوك يصدر عنه. وفي أغلب الأحيان، بعد الجريمة، يكون البُعد سلبيّاً، ووراءه يمكن لاحقاً استغلال الواقع فتحدث أعمال الشّغب أو المطالبة؛ لكن ما يهمّني أن المجتمع بأفراده كيف يتلقّاها”.
تقاذف المسؤوليات عن الجريمة السياسية انتقائيٌّ
وحول تحميل المسؤوليات لأفراد وجماعات تقول د. مكي: “ثمّة انتقائية لدى الجماعات في تحميل المسؤوليات لبعضها البعض؛ فاللاوعي هو معمل يخزّن كلّ عناصر الأفكار وتداعيات الشّخص الموجود أمامنا؛ والأشخاص مختلفون في داخل الجماعات وفي داخل الأسرة أيضاً، فيُصبح المعمل الذي يشتغل عليه اللاوعي مختلف من شخص لآخر. ولكنني أستطيع القول إنّ الصّراع قائم ما بين الخير والشّرّ، والصراع ضمن ثنائية العلاقة ما بين الحياة والموت (لازم، حرام، وجوب القصاص…) هنا كلّ الذكريات تظهر كأنها على شاشة (تاريخيّة الفرد ووجوده بالمجتمع والتصوّرات الاجتماعية التي عاشها…) لذلك، إذا كان اللاوعي معمله انتقائيّ، فالأفراد كذلك هم، كلّ فرد ينتقي خياراً”.
وتُضيف د. مكي أنه “في لبنان ردود الفعل متنوعة، وتستطيع الناس أن تعمل مسرحة للواقع، وأن تذهب إلى التخيّلات وأن تعبّر في النتيجة بموقف؛ وفي أغلب الأحيان، هذه المواقف تكون متضاربة ما بين البُعد الإنساني والبُعد الاجتماعي”.
نعم للبُعد القانوني والنظام!
وحول الإواليات التي تُعيد انتظام الجماعات بَعد الاغتيالات، تدعو د. مكي إلى “الوعي والهدوء، وأن نجرّب الابتعاد عن الانهيار الوسواسيّ، وأن نجرّب أخذ الوضع باتجاه بُعده القانونيّ لا البُعد الذاتيّ، وأن لا نضع أنفسنا في عملية الانتقام والكرّ والفرّ”.
يبقى أن التّدافع بين الناس قائمٌ منذ فجر التّاريخ، ويستمرّ؛ ولا توقّعات متفائلة بتغيّر الطبيعة الإنسانيّة الممزوجة خيراً وشرّاً، بل فطرةٌ وسنّةٌ حتّى قيام السّاعة، والمفلحون هم المُراعون حُرمات النّاس في الدّماء والأموال والأعراض.
طارق قبلان