الإثراء غير المشروع: آلية لمكافحة الفساد أم مجرد إنجاز أدبي؟
تُعتبر “مكافحة الفساد” شعار المرحلة في المعركة السياسية التي فتحت على مصراعيها بعد التحركات الشعبية منذ تشرين الثاني 2019.
توجت المرحلة بسلسلة من الاصلاحات الشكلية، كتعديل قانون مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة وقانون الإثراء غير المشروع الذي أرسلته حكومة سعد الحريري عام 2009، كاقتراح قانون، إلى مجلس النواب، وانكبّت على دراسته لجنة فرعية برئاسة النائب غسان مخيبر لأكثر من خمسة أعوام في 41 جلسة.
مسار الإثراء غير المشروع
أُحيل القانون مجدّدًا عام 2016 على لجنتَي الإدارة والعدل والمال والموازنة. و”نام” في أدراج مجلس النواب حتى العام 2019. ولم تباشر لجنة المال بدراسته إلّا بعد ضغط عدد من النواب إثر انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
أقر مجلس النواب في جلسته التشريعية المنعقدة في قصر الأونيسكو برئاسة رئيس المجلس نبيه بري مشروع القانون بعد تعديل المادة 11 منه والتي كانت محل جدل في الجلستين المنعقدتين تواليًا في 29 و 30 أيلول 2020 .
يتضمن قانون الإثراء غير المشروع خطة المشرّع ضمن باقة محاربة الفساد. فما هو مضمون القانون وما هي علاقته بالإصلاحات المفروضة على لبنان أمام المجتمع الدولي والشعب اللّبناني؟
إن الإثراء غير المشروع الذي يرتكبه الموظف أو الموكل بخدمة عامة أو القاضي يسيء إلى مسار الإدارة ويضعف ثقة المواطن بالدولة ويعود بالضرر على الاقتصاد ويسهم في إشاعة الفساد. من هنا يحتل القانون المرتبة الأولى من مجمل الاصلاحات الضرورية.
وقد احتلّ لبنان المرتبة 136 من أصل 175 بلدًا حول العالم، في دراسة أصدرتها الجمعية اللّبنانية لتعزيز الشفافية ضمن برنامجها “لا فساد”، وقد أعازت الجمعية سبب تقدّم لبنان في المراتب إلى عدم وجود مؤسسات رئيسية مثل مؤسسة وسيط الجمهورية والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
يتحكّم الفساد في جميع قطاعات المجتمع والمؤسسات الحكومية، وعلى الرغم أنّه يعود إلى حقبة ما بعد انتهاء الحرب الأهلية إلّا أنه آثاره تضخمت لتبرز بشكل واضح عام 2015 في ظل أزمة النفايات، تليها الأزمات المتعاقبة حتى تاريخه.
تجدر الاشارة إلى أنّ المشترع اللبناني كان قد وضع سابقًا قانون الإثراء غير المشروع الصادر برقم 38 بتاريخ 18/2/1953، والقانون الصادر بتاريخ 14/4/1954 المتعلق بالتصاريح المطلوب تقديمها من الموظفين والقائمين بخدمة عامة عن ثرواتهم، ثم ألغى هذين القانونين وأقرَّ قانون الإثراء غير المشروع الرقم 154/99 الصادر بتاريخ 27/12/1999، والذي يُعتبر بحكم الملغى بعد صدور القانون الحالي، وهو بمثابة تحديث لكلّ القوانين التي سبقت.
بعد أن وقّع لبنان على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد عام 2003 والتي تنص إحدى موادها على مكافحة الإثراء غير المشروع، أصبح لزامًا عليه إقرار النظام القانوني أي إدراج “الإثراء غير مشروع” ضمن لائحة قوانينه في إطار تنفيذ ما تعهد به أمام الأمم المتحدة.
ويأتي التعديل الاخير للقانون ضمن إطار قانوني جديد، فبعد أن كان القانون سابقًا يحدّد جرم الإثراء بإعتباره إخلالًا بالموجبات الوظيفية ، حددت المادة 10 منه الإثراء غير المشروع على أنّه: “كلّ زيادة كبيرة تحصل في لبنان والخارج بعد تولّي الوظيفة العمومية على الذمّة المالية لأيّ موظف عمومي، سواء أكان خاضعًا للتصريح أو غير خاضع له، متى كانت هذه الزيادة لا يمكن تبريرها بصورة معقولة نسبةً لموارده المشروعة…”. لتصبح بذلك قرينة نفي الجرم واقعة على عاتق الموظف، فهو متّهم بجرم الإثراء غير المشروع طالما لم يستطع تعليل الزيادة غير المعقولة في ثروته. وبشكلٍ أوضح أصبح بامكان المدّعي أن يبادر بادّعائه لمجرّد الاشتباه بتورّط المدّعى عليه بالتصرّف بالمال العام أو استغلال وظيفته العامة للمزيادة ثروته.
من يطال القانون؟
يلزم القانون الموظفين في المواقع العامة في الدولة والذين يترتب على أعمالهم نتائج مالية أن يقدّموا تصريحًا بالذمّة المالية في مهلة شهرين من توليهم الوظيفة، ويكشف هذا التصريح كامل ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة، كما عليهم إلحاق تصريهم الأوّل بتصاريح دورية كل ثلاث سنوات وتصريح أخير قبل نهاية الخدمة بشهرين.
ويعتبر القانون أنّ تقديم التصاريح المنصوص عليها شرطًا من شروط تولّي الوظيفة العمومية والاستمرار فيها واستحقاق قبض الرواتب والتعويضات وسائر الحقوق المالية لجميع الفئات المعدّدة في تعريف الموظف العمومي الخاضع للتصريح.
وتقول المادة: “يعتبر بمثابة الشخص الواحد كل من الزوج والأولاد القاصرين، كما والأشخاص المستعارين و/أو المؤتمنين و/أو الوصيين..”، أي أنّ التدقيق بممتلكات المدعى عليه، المنقولة وغير المنقولة، لا تقتصر على شخصه بل تطال كل أفراد عائلته أي زوجه وأولاده والقصّار منهم.
كما وقد حدّد في المادة الأولى الفقرة الثانية، الموظف الخاضع لموجب تقديم التصريح كل موظف عمومي، باستثناء الفئة الرابعة وما دون أو ما يعادلها غير المكلفين بمهام فئة أعلى، كما ويشمل الاستثناء أفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللّبنانية والمدارس والمعاهد الرسمية.
كما يخضع للتصريح عن الذمة المالية الموظفون في وزارة المالية وموظفو الجمارك والدوائر العقارية ورئيس وأعضاء وموظفو ومستخدمو اللّجان الإدارية والهيئات المستقلّة والناظمة، المنشأة بقوانين، من جميع الرتب والفئات إذا كان يترتب على أعمالهم نتائج مالية”. ويجب أن يشمل التصريح :” …جردة بكامل الذمة المالية والمصالح في لبنان وفي الخارج”. (المادة 4)
الجهة المنوطة باستلام التصريح
إلى حين إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أناط المشرع هذه الصلاحية بجهات بديلة تتلقى التصاريح، بحيث يكون بحسب المادة 6 على الهيئة وعلى كل جهة معنيّة مؤقتًا باستلام التصاريح أن تصدر تعميمًا بواسطة الإدارة التابع لها الموظفون العموميون الخاضعون للتصريح خلال مهلة شهر من تاريخ نشر هذا القانون.
فعلى سبيل المثال، رئاسة المجلس الدستوري هي الجهة صاحبة صلاحية تلقي تصاريح كل من رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي ومجلس الوزراء والمجلس الاقتصادي الاجتماعي بالإضافة إلى النواب والوزراء، أمّا رئاسة ديوان المحاسبة فتتلقى تصاريح القضاة الماليين وموظفي الديوان، رئاسة المجلس النيابي تتلقى تصاريح موظفي البرلمان… وهكذا.
عقوبة مخالفي القانون
ويعتبر القانون “كل من لا يقدّم التصريح الأوّل في موعده والتصاريح اللّاحقة المتوجبة في مواعيدها دون عذر مشروع ويستمر في تقاعسه خلال مهلة ثلاثة أشهر مستقيلًا حكمًا”.
بالإضافة إلى مواجهة المتخلّفين عن تقديم التصريح عقوبة “التوقف عن تسديد الرواتب والمستحقات”، تُفرض غرامة تتراوح ما بين 10 و20 مرّة الحدّ الأدنى الرسمي للأجور على كل “من يقدّم تصريحًا كاذبًا” كما ويواجه “الحبس من 6 أشهرٍ إلى سنة”.
وتُفرض غرامة تتراوح بين 5 و10 مرّات الحدّ الأدنى الرسمي للأجور لـ”من يفشي سرية التصريح” بالإضافة إلى “الحبس عامًا”.
أما من يثبت بحقه جرم الإثراء غير المشروع، فتلك جزاؤها المادة الرابعة عشرة من قانون العقوبات التي تنص على أنّه “يعاقب بالاعتقال من 3 إلى 7 سنوات وبغرامة تتراوح من 30 مرة إلى 200 مرّة الحد الأدنى الرسمي للأجور”.
يُحسب للقانون أنّه وضع جرم الإثراء غير المشروع في نظام قانوني واضح ومباشر، ممّا يبشّر بنتائج إيجابية إذا ما تمّ تفعيله خصوصًا وأنّ فكرة القانون ليست بجديدة على المشرّع اللّبناني، إلّا أنّه يؤخذ عليه عدم فرض المشرّع علنية التصاريح بحيث أبقى على سرية التصاريح المقدّمة أمام المراجع المختصة (المادة 8)، وذلك في ظل فقدان الثقة بالسلطات الرسمية وإمكانية التلاعب بهذه التصاريح السريّة الأمر الذي يتعذّر في حال كانت التصاريح خاضعة لمبدأ الشفافية والنشر وحق الوصول للمعلومة لاي مواطن أو متضرّر أو ذات مصلحة، لكنّ الأكثرية الساحقة من النواب وعند تصويتهم خلال جلسة اللّجان رفضوا إخضاع التصريح لمبدأ العلنية بذريعة الخوف على حياة النواب والوزراء الأثرياء.
لم يتبقَ في لبنان سلطة إلّا وارتبطت ممارساتها بالتنفيع والمصالح الفردية والحزبية على حساب المنفعة العامة والمصلحة العليا للوطن والمواطن، فهل يُكتفى بهذا القانون كإنجاز أدبي أم أنّ المرحلة القادمة ستفرج عن استقلالية القضاء ونزاهته؟.