مجتمع

في لبنان: مشروع الزواج مشروط بمشروع البلد الاقتصادي

الزواج “قسمة ونصيب” إلاّ في لبنان، مربوط بربح ورقة “لوتو أو يانصيب”؛ إذ تشهد البلد في الفترة الزمنية الأخيرة، أي منذ العام 2018 تقريبًا وضعًا اقتصاديًا مترديًّا لم يمرّ به لبنان واللبنانيّون حتى في زمن الحروب. وأصبحت الأزمات المتتالية تعيق الإرتباط الأبدي بين أيّ ثنائي… فللزواج متطلباته، كما يروي أزواج تجاربهم لـ “أحوال” في هذا التقرير.

أزمات توّلد أزمات

وضعٌ إقتصاديٌّ مزريٌّ إستثنائيٌّ يعيشه اللبنانيّون ويتعايشون مع أزماته المتلاحقة:

  • بطالة مستشريّة.
  • تضييق عبور السائحين وتهريب البضائع عبر الحدود السورية.
  • إغلاق أهمّ المتاجر ذات الإمتيازات العالمية أبوابها نهائيًّا في لبنان.
  • جائحة كورونا وما فرضته من ركود إقتصاديٍّ عالميٍّ.
  • انفجار مرفأ بيروت في 4 آب، وما تبعه من تدهورٍ لوضع لبنان الاقتصادي.
  • توّقف مصرف الإسكان عن تسليف قروضٍ مدعومةٍ لتأمين منازل زوجية.
  • إلغاء القروض الشخصية من المصارف الخاصة ووضع حدّ على السحوبات.
  • أزمة الدولار وجنون سعر صرفه وتأثيره الهستيري على القدرة الشرائية.

  غسان وميّ: كنا سنتزوج ولكن…

كل تلك العوامل -على سبيل المثل لا الحصر- تنهك كاهل اللبناني يوميًا، أما أبرز نتائجها فهي فسخ الإرتباطات بين أي ثنائي، وقطع الطريق أمام بناء البيت الزوجي. وهذا ما جرى مع غسّان وميّ اللذين يرويان لـ “أحوال”تجربتهما المرّة.

يلخّص غسّان تجربة فشل مشروع زواجه بـ “برم دولابي” قائلاّ: كنت مديرًا  في إحدى مؤسسات الملابس العالمية، حتى فقدت وظيفتي بسبب إغلاق المؤسسة أبوابها. ويتابع، “حاولت بعدها “فتح عحسابي” محل سمانة وخضار، لكن مع إنعدام القدرة الشرائية لدى المستهلك بسبب التلاعب الجنوني في أسعار البضائع، وجدت نفسي خاسراً في هذا المشروع الذي عقدت عليه الآمال.

يكمل غسان، “ما توّقفت يوماً عن البحث عن عمل بديل. العروض وفيرة، يقول؛ إنّما الأجور متواضعة، تكاد لا تكفي مواصلات ومصاريف يومية بسيطة.

يتابع متنهدًا، إزاء هذه الحال وقفت وقفة ضمير أمام واقعي، وراجعت نفسي؛ “كعاطل عن العمل وعاجز عن تحسين وضعي الاقتصادي ومرتبط منذ أكثر من ثلاث سنوات. إذن، ما مصير العلاقة؟ إمّا فسخ الإرتباط أو السيّر نحو المجهول بعلاقة غير معروفة المصير. فقررت إنهاء العلاقة مع حبيبتي “ميّ” لأنّ وضعنا الاقتصادي البائس سيُنتج عنه مستقبل زوجي مليء بالبؤس والفقر والديون.”

بدورها، تصف الحبيبة “ميّ” معاناتها مع غسّان خلال فترة إرتباطهما “بالمدّمِرةً لأحلام العلاقة والمحبِطةً لهدف الزواج.”

تضيف متحسّرةً: “كنت متفهمةً لآخر لحظةٍ، ولكن غالبًا ما تجري الرياح بعكس ما تشتهي السفن، وكنت على أتمّ الإستعداد لمساندته في تأمين مفروشات المنزل وبعض تكاليف الزفاف، لكن كيف نناقش تلك الأمور دون تدبير سقفٍ يأوينا؟ وكم سنصبر كي يجد غسّان عملاً مناسبًا ويبدأ بجمع المال لدفع نفقات الزواج؟ وهل راتب هذا العمل إذا وجد سيكفي لتأسيس عائلة وإعالة أولاد؟ من هنا كان القرار النهائي؛ فسخ الإرتباط وإلغاء مشروع الزواج.

حالة غسان وميّ هي واحدة من آلاف حالات مجتمعنا، لها أسبابها وظروفها، ناقشناها مع خبير اقتصادي واختصاصية في العلاج النفسي.

“الحالة تعبانة يا ليلى”

في ظلّ غياب القروض، ما هو البديل لتأمين المنزل الزوجي؟ وإلى متى سنبقى على هذه الحال؟

يلفت الأكاديمي والخبير الاقتصادي الدكتور بيار خوري عبر “أحوال” إلى “أنّ الشباب اللبناني بات يفكّر اليوم بطريقه محدودة جعلت شراء المنزل أهم من مشروع الزواج بذاته”. وعن تبعات توّقف الإقتراض من مصرف الإسكان، يفصّل الخوري المشكلة إلى عنصريّن:

  • غياب الحلول البديلة:

العنصر الأول يكمن في عدم وجود قانون إيجارات عصري، يسمح بحماية كلّ من المستأجر والمستثمر في القطاع العقاري؛ فمشكلة القانون القديم مقابل القانون الجديد لا زالت تتفاعل منذ ثلاثين عامًا، في ظل عجز صانعي السياسات عن إيجاد حل مقبول اجتماعيًا واستثماريًا.

  • العقلية الاجتماعية السطحية

أما العنصر الثاني بحسب الخوري، فهو اجتماعيٌّ مع تسطيح العقليّة الاجتماعية، خاصة بعد الحرب، بما يخالف المنطق الاقتصادي؛ مازاد عقد الزواج تعقيدًا، وكأنه بات مشروطًا بشراء الشقة. ويلفت الخوري أنّه كان يُحلّ في أغلب الأحيان عبر القروض الإسكانية، أمّا مع غياب الإسكان فتغيب فكرة الزواج.

وعن البديل عن مصرف الإسكان، وعن قروض المصارف الخاصة، ينصح الخوري بالتفكير بطريقةٍ أقلّ تصلبًا في موضوع شراء الشقق كشرطٍ للزواج، متمثلاً بالفئة التي تميل للزواج غير التقليدي والمؤيدة لفكرة الإيجار.

ركائن الزواج حسب نظرية “Maslow”؟

أما من الناحية النفسية للنتائج المترّتبة على الثنائي خلال إرتباطهما في ظلّ وضعٍ إقتصاديٍّ معدومٍ، فتؤكد الاختصاصية في علم النفس العصبي والمستشارة الأسرية والتربوية الدكتورة جوليانا مايز كنعان لـ “أحوال”، “أن الهمّ الاقتصادي يؤثر إلى حدٍ كبير على قرار مشروع الزواج، إذ أنّ الوضع المالي المتردّي الذي يمر به الثنائي يؤخّر إتمام عقد الزواج أو يسبّب عدم عقده، خصوصًا مع إنزلاق الطبقة المتوسطة نحو الطبقة الفقيرة. هذا، بحسب كنعان، يؤدي إلى تعزيز فكرة عدم الإرتباط خوفًا من عدم توفير الإمكانيات لتلبية حاجيات الزواج الاقتصادية.

إلى ذلك، تشير كنعان إلى أنّه حسب نظرية مثلث “Maslow”، إنّ إحدى ركائز الزواج هو الآمان الذي نشعر به، والذي يتجلّى عبر عدة نواحٍ أبرزها إلى جانب آمان الإستقرار الشخصي، الناحية المادية والاقتصادية (ديمومة العمل وتقاضي الأجور).  وفي لبنان، الآمان المعيشي مهدّد، إذ أنّ الإدخار غائب كليًّا، وبالتالي تصبح القدرة المعيشية أقل يسرًا  وراحةً، فيشكل العبء الاقتصادي حاجزًا منيعا بوجه مشروع الزواج.

معايير مزيّفة لاختيار الشريك

وعمّا إذا كان الزواج في الوضع الاقتصادي الحالي يخفّف أو يزيد الوضع النفسي سوءًا، تعود كنعان إلى أساس اختيار الشريك، وفق معايير مزيّفة ومقيّدة بمظاهر المجتمع المادية؛ فيكون اختيار الشريك كشريك عملٍ لا حياة، وعندما يتفاقم الوضع الإقتصادي سوءًا يخفّ دور هذا الشريك.

وتلفت كنعان إلى ظاهرة جديدة في مجتمعنا، ألا وهي السرعة يإيجاد البديل للشريك، وفقًا للإحتياجات؛  فتبرز المشاكل الزوجية ويبدأ تفكك المنزل الزوجي. وتشير كنعان إلى دراسة أُجريت مؤخراً في لبنان تبيّن أنّ نسبة الطلاق بلغت حوالي 32% (أي 400 حالة طلاق لكل 1500 حالة زواج) وهذه النسبة تعدّ مرتفعة جدا في مجتمعنا.

ما علاقة الإكتئاب بالاقتصاد؟

تستشهد الدكتورة كنعان بدراسةٍ علمية نُشرت في مجلة Nature Human Behavior تتمحوّر حول ارتباط الإكتئاب بالحالة الاقتصادية؛ إذ ظهر على “الرنين المغناطيسي” نشاط عند مستوى منطقتين في الدماغ: اللوزة الدماغية والحصين  Amygdale et Hippocampe المسؤولتين عن التعامل مع المشاعر، وخاصةً التعامل مع الوضع المادي؛ فكلّما تغيّرت الحالة المادية للفرد، كلما تقلّب مزاجه.

إلى هذا، تجزم كنعان أنّ تردّي الأوضاع الاقتصادية يمكن أن يؤدي إلى إكتئاب الفرد، بسبب الأداء الوظيفي والعملي للمناطق الدماغية المحدّدة أعلاه؛ وبالتالي فإنّ الحالة النفسية مرتبطة بالحالة الاقتصادية. وكلّما تدهورت الأخيرة، إزداد الفرد إكتئابًا وفقد ثقته بنفسه.

بالمختصر الحزين، تتعدّد الأزمات الاقتصادية وتتكاثر أسبابها وتزداد تبعاتها، أما النتيجة الأبرز فهي قلّة مشاريع الزواج وفسخ الإرتباطات وصولًا إلى عدم بلوغ النهاية السعيدة: الزواج.

بئس زمنٍ عجزت خلاله أجيال من بناء منزل المستقبل وانعدمت لدى شبابه آمال تأسيس عائلةٍ في مجتمعٍ، أقلّ ما يُقال عنه مجتمعاً مجهول الأفق والمصير.

فادي سلامة

صحافي ومتخصص في مواقع التواصل الاجتماعي. حائز على شهادة ماجستير في الصحافة وعلم التواصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى