منوعات

التدقيق الجنائي على مذبح رياض سلامة

لا تزال قضية التدقيق الجنائي تتفاعل، وأفضت إلى تمديد مهلته مع شركة “ألفريز ومارسال” لمدة ثلاثة أشهر إضافية، بكلفة إضافية تبلغ مليون دولار؛ علماً أنّ مهلة العقد الأولى انتهت في 3 تشرين الثاني دون أن تفضي إلى أي نتائج، وذهبت كلفة التدقيق البالغة 3.320 مليون دولار هباءً منثوراً من جيوب اللبنانيين ودولاراتهم في المصارف. والتساؤل الأساسي هنا، هل من متغيّرات جوهرية وحقيقية دفعت إلى تمديد العقد والوصول بالتدقيق الجنائي إلى مبتغاه؟

في الشكل، قد يتراءى للمتابعين والمهتمين أنّ تغيّرات ما حدثت في هذا الشأن، يؤكدها الإجتماعان الماليان اللذان حصلا، أحدها في القصر الجمهوري والثاني في السرايا الحكومي.

إلى ذلك، تستنبط المشاهد لمنظر حاكم مصرف لبنان في الصور التي تم التقاطها له في القصر الجمهوري الحالة التي يتعامل معها حيال هذا الموضوع، ما بين المستهزئ والخائف؛

المستهزيء؛ لأنّه يعلم علم اليقين أنّ الأمر لن يطاله وحده، بل سيقتلع رؤوساً كبيرة من مكانها، في حال حدث. وهذا مستبعد حصوله أقلّه حتى الآن، بسبب تجذّر منظومة الفساد وقوتها وتماسكها؛ والخائف في نفس الوقت، من تقديمه من قبل نفس المنظومة، قرباناً على مذبح التدقيق والتضحية به لحماية منظومتها المتكاملة.

ونؤكد في البداية أنّ المتغيرات والعوامل التي أفشلت التدقيق الجنائي منذ اللحظات الأولى لم تتغير، وأهمها الشرعية القانونية للعقد، وقانونية الحصول على المعلومات من مصرف لبنان؛ حيث لم نجد تغييراً في المبررات القانونية الجديدة التي تتيح الوصول إلى بيانات مصرف لبنان بحجة السرية المصرفية، وطالما أنّ المبرر القانوني بقي كما هو، فإنّ النتيجة بالمقابل ستبقى كما هي.

من أجل تدقيق جنائي حقيقي يصل إلى نتائج مرجوة، من كشف هوية ناهبي المال العام إلى محاكمتهم ومحاسبتهم، وصولاً إلى استعادة الأموال المنهوبة، لا بد من توفّر مجموعة عوامل ومتغيّرات تُعتبر شروطاً أساسية.

تغيير حاكم مصرف لبنان

يُنظر إلى حاكم مصرف لبنان كالعقل المالي لشبكة الفساد في الدولة العميقة اللبنانية، وإلا لما حافظ على موقعه لثلاثة عقود متتالية؛ وهو بهذا، يُعتبر المتهم الأول لأنّه المصدر القانوني والمالي لجميع العمليات المالية، التي حدثت كل هذه الفترة ومنها عمليات النهب والسرقة. وهو في عملية التدقيق، المؤثر الأول في هذه القضية لأنّ جميع المعلومات والمعطيات يجب أن تمر من خلاله؛ ووفق ذلك يستطيع حجب وإخفاء ما يشاء من المعلومات بحجج عديدة، منها قانوني وأخرى عدم توفرها وغيرها. لذلك، فإنّ الشرط الأول لإنجاح عملية التدقيق هو إقالة حاكم مصرف لبنان، والإتيان  بحاكم مشهود له بالنزاهة والاستقلالية ونظافة الكف. والقاعدة هنا يجب ان تكون أنّ رياض سلامة متهم حتى تُثبت براءته وليس العكس.

تأطير الأرضية القانونية وفق القوانين

إنّ المبرر الوحيد الذي أفشل المرحلة الأولى من التدقيق الجنائي، هو مخالفته للقوانين اللبنانية في هذا الإطار، بالإعتماد على قانونيّ النقد والتسليف والسريّة المصرفية. وبالتالي، يبقى هذا السلاح فعّالاً بيد الحاكم الآمر الذي يتطلب كضرورة قصوى في حال حسن النوايا تهيئة الإطار القانوني اللازم لتسهيل كل متطلبات التدقيق. وأعتقد أنّ الغطاء القانوني له أصوله في القوانين اللبنانية، كنت قد ذكرت بعضاً منها في مقالتي السابقة القوانين اللبنانية لا تتعارض مع التدقيق الجنائي. ولكنها تحتاج إلى جهة تشريعية وقانونية رسمية كمجلس النواب أو مجلس الوزراء والإعتماد على رأي هيئة التشريع والاستشارات.

تعديل بعض بنود العقد

ثغرات عديدة تضمنها العقد الموقّع بين الدولة اللبنانية والشركة المولجة بالتدقيق. ومع انتهاء مفاعيل العقد الأول، كان الأولى تغيير بعض بنود العقد بدلاً من الإبقاء عليه كما هو وتمديد العمل به؛ منها على سبيل المثل لا الحصر، العقد الذي يخوّل وزير المال فقط  أن يكون صاحب القرار الأوحد في هذا الموضوع، وكذلك توسيع نطاق العقد ليشمل كل الوزارات والمجالس والمؤسسات العامة.

توسيع صلاحيات المجلس العدلي

إنّ قضية نهب المال العام والفساد المستشري في الإدارات والمؤسسات العامة، لا تقلّ خطورة عن قضايا الإرهاب والإخلال بالأمن والسلم الأهلي، بل هي في صلب الأمن القومي لأنّها مرتبطة بحقوق الدولة وماليتها العامة، وتالياً حقوق ومصالح المواطنين. وطالما أنّ مجلس الوزراء أصدر مرسوم إجراء التدقيق الجنائي، يُفضل توسيع صلاحيات المجلس العدلي وإحالة الملف إليه، حيث ثبت بالتجربة التاريخية أنّه أفضل المحاكم الموجودة حالياً. ولا بد أيضاً من تحديد صيغة محاكمة الناهبين إذا كانوا رؤوساء أو وزرار حاليين أو سابقين، لأنّ محاكمتهم تتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب، وهي من العوائق الجوهرية.

الشفافية وإعلان النتائج

إذا كانت الديموقراطية هي حكم الشعب ولمصلحة الشعب، فيحقّ للشعب اللبناني- وخاصة أنّه مصدر جميع السلطات دون استثناء، بما فيها السلطات النقدية والمالية- أن يضطلع على كامل تفاصيل وحيثيات التدقيق ونتائجه. وإذا كانت السلطات المسؤولة عن التدقيق صادقة في نيّاتها، يجب عليها نشر نتائج التدقيق في كل مرحلة بشكل شفاف ونزيه، مما يعطي للتدقيق السلطة الشعبية التي هي أساس جميع السلطات؛ وهذا من أهم العوامل التي تعيد الثقة مع الجمهورية اللبنانية كدولة وكمؤسسات.

 

في هذا السياق، لا بدّ من الجزم أنّ عملية التدقيق الجنائي ليست عملية مالية ومحاسبية أو قضائية فحسب، بل مفصل حقيقي في التاريخ اللبناني الحديث، إما التحوّل نحو دولة القانون والمؤسسات وحكم الشعب لصالح الشعب والوطن، أو ترسيخ دولة المَزارع والكانتونات المذهبية والمالية، وإما زعزعة بنيان الدولة العميقة ومنظومة الفساد وشبكات المحاسيب في الإدارات والمؤسسات العامة، أو إبقاء اللبنانيين في حالة التبعية والإرتهان السياسي والمعيشي والنفسي.

ويبدو أنّه حتى الآن صوت الباطل هو الذي يعلو ويهيمن ويناور ويعيد إنتاج نفسه، حتى يقول الشعب كلمة الفصل أو يقضي الله أمراً كان مفعولا.

     د.أيمن عمر

 

 

أيمن عمر

كاتب وباحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية محاضر في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية له العديد من الأبحاث والمؤلفا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى