لبنان يخسر رفاهية المأكل وأمنه الغذائي مرتبط بـ”الإعاشة”
لتغيير نمط حياة الناس والتفكير بإستهلاك الموارد الطبيعية بفعّالية
كل شيء تغيّر عندنا في ظل الإنهيار المالي والإقتصادي وترنّح ما تبقى من مقومات الدولة. هذا الواقع المرير غيّر من أولوياتنا وإهتماماتنا. سابقاً كان يمرّ يوم الغذاء العالمي في 16 تشرين الأول من كل عام مرور الكرام. فلا مسؤولينا يكترثون له ولا شعبنا يتوقف عنده، وفي أحسن الاحول تنظّم الجهات المعنية إحتفالات “رفع عتب” وإن غطاها الاعلام يكون ضمن صفحة متفرقات.
حدّدت منظمة الأغذية والزراعة FAO (Food and Agriculture Organization) التابعة للأمم المتحدة هذا التاريخ إحياءً لذكرى تأسيسها في عام 1945 وبهدف خلق الوعي وتحريك وجدان الإنسانية لتعزيز التضامن الدولي والوطني في مكافحة الجوع والفقر وسوء التغذية، والحضّ على تكثيف الجهود لتحقيق الإكتفاء الغذائي الصحي.
في هذا الاطار، وضمن خطة التنمية المستدامة 2030 التي تتضمن سبعة عشر هدفاً والتي وُضعت من قِبل منظمة الأمم المتحدة منذ العام 2015، حمل الهدف الثاني عنوان “القضاء التام على الجوع” حيث أن أكثر من 800 مليون شخص في العالم ليس لديهم غذاء يكفي لأن يتمتعوا بحياة صحية نشيطة أي أن واحداً من كل 9 أشخاص على الصعيد العالمي يعاني من نقص التغذية ويسبب ما يقارب 45% من وفيات الأطفال دون سن الخامسة و 3.1 مليون طفل كل عام. تعتبر هذه الخطة عبر هدفها الثاني أنه ينبغي بحلول عام 2030 إنهاء الجوع وإنهاء جميع أشكال سوء التغذية.
هذا العام، يحلّ يوم الغذاء العالمي ومروحة الفقر عندنا توسّعت لتشمل أكثر من 60% من اللبنانيين و “غول” الجوع يطلّ برأسه حيث يستحضر اللبنانيون مشاهد الهرج والمرج في دول أفريقيا أو في أميركا اللاتينية بسبب “صندوقة إعاشة” ويترقّبون حلوله خلال أسابيع مع تفاقم البطالة وجنون الأسعار والإنهيار المتواصل للعملة الوطنية.
الأمن الغذائي هو وجود أكل صحي كافٍ للشعوب الحالية والأجيال القادمة، وإستدامة الأمن الغذائي هي بأهمية توفّره. إنه يرتبط بضمان وجود نظم إنتاج غذائي مستدامة، وتنفيذ إجراءات زراعية متينة تؤدي إلى زيادة الإنتاجية والمحاصيل، وتساعد على الحفاظ على النظم الإيكولوجية، وتعزّز القدرة على التكيّف مع تغير المناخ. لذا في ظل غياب كل هذه العوامل، اللبنانيون قلقون على أمنهم الغذائي الى حد الذعر.
مرتضى: نفتقد لأبسط مقومات الإكتفاء الذاتي والمطلوب سيادة غذائية
يرى وزير الزراعة عباس مرتضى أن “الأزمات على كافة الصعد تعصف بالبلاد، لذا يجب على الدولة ان تبدأ بالتفكير بشكل صحيح عبر تعزيز القطاعات الإنتاجية من أجل قيام دورة اقتصادية متكاملة”.
وفي إطار أزمة الأمن الغذائي، يدعو مرتضى الى معالجة مسألة السيادة الغذائية، موضحاً: “علينا كدولة العمل على إنتاج غذائي عوض الإعتماد على الإستيراد. الزراعة هي عصب الأمن الغذائي لذا وضعنا خطة استراتيجية خماسية بالتعاون مع المنظمات الدولية المختصة تقوم على توسيع الاراضي الزراعية عبر الإستصلاح، تحديد أنواع الزراعات أو الأشجار المطلوبة وفق معطيات علمية ودراسات للأسواق والتكاليف والأرباح، توسيع الثروة الحيوانية، إدخال اليد العاملة المتخصصة والتكنولوجيا في الزراعة. لكن لنكن شفافين الأمر مكلف خصوصاً في ظل الوضع الحالي”.
حين نسأل أن خطته بعيدة الأمد وما حال الأمن الغذائي في القريب العاجل، وهل خطوات كدعم سلة غذائية تفي بالغرض؟ يبتعد مرتضى عن الخوض في التفاصيل معتبراً ان حكومته إستلمت المسؤولية في قلب الازمة التي تفاقمت مع ظهور جائحة كورونا. إلا انه يشدّد على أننا “نفتقد الى أبسط مقومات الإكتفاء الذاتي. وزارة الزارعة بصراحة وصدق كانت غائبة عن السياسات الكبرى في الدولة. ماذا تستنظر من وزارة موازنتها 50 مليار ليرة تذهب معاشات للموظفين. لا دراسات لا رسم سياسات ولا دعم، المزارع كان متروكاً لقدره في لبنان. أما السلة الغذائية فديمومة دعمها مرتبطة بإمكانيات الدولة”.
فرحات: لا حلول على الأمد القريب إلا المساعدات الخارجية
يشدّد عميد كلية التمريض والعلوم الصحية في جامعة “سيدة اللويزة” الدكتور أنطوان فرحات على “أن هناك ارتباطاً عضوياً بين الأمن الغذائي والموارد الطبيعية لأي بلد وهو يتطلب تخطيطاً واستثماراً على الأمد الطويل. لذا لا حلول لدينا على الأمد القريب إلا المساعدات الخارجية”، معتبراً أن “المقاربات التي طرحت من قبل المسؤولين لتحصين الأمن الغذائي لا تتلاءم مع خطورة الوضع القائم”.
فرحات الذي يشير الى دقة الوضع عالمياً لأن البشر يتزايدون ديمغرافياً بشكل تصاعدي كبير والتوقعات أن علينا تأمين الغذاء لملياري إنسان إضافي خلال 30 سنة فيما في هذه اللحظة لدينا نحو 850 مليون جائع، يتوقف عند الخطورة محلياً جراء إستيراد لبنان اكثر من 80 % من غذائه ويسأل: “كيف لنا أن نبني أمناً غذائياً ونرسم سياسيات عامة ولدى كل وزارة أو مؤسسة أرقام مختلفة عن الأخرى؟ لو كان العالم يمرّ بأزمة بيئية عوض أزمة كورونا وإضطرت الدول المنتجة التي نستورد منها الى الانكفاء عن التصدير لتلبية حاجاتها الإستهلاكية المحلية، ماذا كانت خطواتنا البديلة؟”.
أضاف: “لطالما كان إقتصادنا ريعياً لا إنتاجياً. إن الدعوات التي وجهها مؤخراً السياسيون لمناصريهم من أجل الزراعة أمر جيد ولكن يجب ان تكون منظّمة من قبل الدولة. كما إن في خطة وزارة الزراعة وكذلك في السلة الاقتصادية التي أطلقها وزير الإقتصاد راوول نعمة يتحدثون عن اللحم الأحمر، فيما يجب البدء بالتفكير بتغيير نمط حياة الناس واستهلاكها”.
أردف: “كيلو اللحم الأحمر يتطلب إستهلاك عشرات المرات من أرض وعلف ومياه أكثر من إنتاج حليب أو بيض او بطاطا أو قمح. في ظل الأزمة الإقتصادية الخانقة التي نعيشها والقلق على كيفية تأمين القمح لصناعة الخبز بعد أسابيع، ما زلنا نفكر في طريقة غير فعّالة ونسعى الى الحفاظ على نوعية إستهلاكنا. عوضاً عن دعم الدولة للحمة الحمراء المكلفة أكثر والصحية أقل والمسببة للتلوث، الأجدى بها دعم القمح أو الدجاج أو الحبوب وأن توعّي الناس على الغذاء المستدام. يجب التركيز اليوم على تشجيع الحيونات التي لا تطلب علفاً كالماعز والأغنام وهي تؤمّن أيضا اللحمة الحمراء وبكلفة أقلّ”.
ويختم فرحات: “يجب التفكير بإستهلاك الموارد الطبيعية لدينا – وهي محدودة – بفعّالية والذهاب الى الأساسيات لا الكماليات خصوصاً في ظل السباق مع الوقت. يجب إعادة النظر في البنية التحتية الإستهلاكية لتأمين الغذاء المستدام بأقل الموارد المطلوبة لإنتاجه. قد يُطرح عامل الصحة لتشجيع الناس على ذلك، مثلاً في ظل الكورونا الحبوب تمنح مناعة اكثر من اللحم الاحمر”.
كشف الإنهيار المالي والاقتصادي الأكذوبة التي نعيشها منذ عشرات السنين حيث أبسط مقومات الدولة غير متوفرة عندنا. خطط تفوق بعددها عدد الوزراء الذين تسلموا مقاليد الحكم منذ الطائف حتى اليوم ولكن لم نشهد لمرة رسم سياسات عامة.
هي ساعة الحقيقة، نحن مواطنون في “لا دولة” متروكون لقدرنا. سنوات الصدفة التي عشناها في رخاء وبحبوحة تبخّرت. أصبحنا مرغمين على تغيير نمط حياتنا الغذائية والتفكير بإستهلاك الموارد الطبيعية بفعّالية، حتى رفاهية المأكل خسرناها وأمننا الغذائي أضحى مرتبطاً بعطف الدول علينا ومساعداتها وبـ”صندوقة إعاشة”.