الزنزلخت شجرة إيكولوجية تستعيد حضورها لبنانياً
إلى الآن، وبعد أكثر من خمسين سنة، ليس ثمة من يعلم لماذا اختار الكاتب المسرحي عصـام محفـوظ (1939 – 2006) تحويل بطل مسرحيته “سعدون” إلى شجرة “زنزلخت”؟ ولماذا لم يختَرْ على سبيل المثال شجرة من نوع آخر؟ لا بل ولماذا اختار عنوان “الزنزلخت” لمسرحية رسَّخت العصر الذهبي للمسرح اللبناني، خصوصا وأن محفوظ يعتبر رائد النهضة الثانية لهذا المسرح بعد مارون نقاش؟
كل ما نعرفه أن مجنوناً بين مجموعة مجانين كانوا أبطال هذه المسرحية، بينهم “سعدون” الإنسان الطامح إلى خلق عالم سعيد ومترف لا يعرف الألم والتعب والخوف، ولا المرض، فأحبَّ امرأةً خيالية، وظل ينتظرها ويتنفس من أمل هذا الحب الخيالي، هو الرجل الذي خضع لمحاكمة زملائه المجانين، فتحوّل إلى شجرة “زنزلخت”، واللافت للإنتباه أنّ عصام محفوظ كتب هذه المسرحية سنة 1964، لكن أحد لم يجرؤ على إخراجها، كونها تخطّت السائد في ذلك الزمن إلى أن عاد المخرج الراحل برج فازليان من سفره ووافق على إخراج “الزنزلخت” عام 1968.
الزنزلخت قديماً… ظاهرة “عبثية”
في تلك الفترة، يوم كتب محفوظ هذه المسرحية، كان “الزنزلخت” حاضراً كـ ظاهرة “عبثية” عصية على التفسير؛ شجرة تزهر ولا تطرح ثمارًا، ويُقبل الناس على زراعتها، وقلّما كان منزل لا تتصدره “زنزلختة” عتيقة، في الساحل كما في الريف، ولربما أسقط محفوظ على هذه الشجرة بعضاً من تصوراته حيال “حب خيالي” بحث عنه “سعدون”، في تماهٍ مع “الزنزلخت”، الشجرة البرية غير المثمرة فاكهةً يلذُّ قطافها، فقط حبيبات لا تصلح إلا لطرد العث والبعوض.
يبقى هذا الإستنتاج مجرد اجتهاد يدنو من الصواب ولا يدَّعيه، فبالتأكيد لم ينظر محفوظ إلى “الزنزلخت” كقيمة إيكولوجية، وهو يحلّق في فضاء إبداعاته المسرحية طارحاً إشكاليات إنسانية ووجودية في ستينيات القرن الماضي، فكان “الزنزلخت” أقرب ما يكون إلى رفد نصه المسرحي بمسحة خيالية، ضَـــمَّنها إيماءات فلسفية وأفكاراً لماحة وسخرية هامسة.
الزنزلخت في عودة إلى الجذور
بعيداً من عالم محفوظ المشوب بقلق إنساني، نطلّ على “الزنزلخت” كشجرة عادت لتتصدّر من جديد الإهتمام، في عودة إلى الجذور، واستعادة “فلسفة” الأجداد الذين أدركوا أهمية هذه الشجرة فزرعوها نظراً لفوائدها، ومن يشاهد بيتاً قديماً مهملاً لا بد وأن تستوقفه شجرة “الزنزلخت” في صحن الدار.
وفي مقاربة للبيت اللبناني العتيق نتأكد مدى الخبرة التي اكتسبتها أجدادنا عندما عمّموا زراعة “الزنزلخت”، حيث أدركوا بالتجربة الحسية منفعتها وأهميتها في إبعاد البعوض والحشرات عن المدى الحيوي لبيوتهم المتواضعة، وما توصلوا إليه حيال شجرة الزنزلخت وأهميتها البيئية والصحية جاء نتاج مئات السنين من الخبرة، ليتأكد اليوم مدى أهمية هذه الشجرة.
حتى الأمس القريب، كانت شجرة “الزنزلخت” شبه منقرضة، إذ تم الإستعاضة عنها بأنواع مستوردة من أشجار الزينة، ليتبين في مـا بعد أنّها غير ملائمة لطبيعة لبنان ومناخه، علما أن شجرة “الزنزلخت” يمكن اعتبارها من أشجار الزينة أيضاً بأزهارها البنفسجية وجمال أوراقها، ولذلك بدأنا نشهد ردَّ اعتبار لـ “الزنزلخت” وما يمثل من رمزية خاصة في ذاكرة اللبنانيين.
بيئية بامتياز
في هذا السياق، أشارت الخبيرة في مجال هندسة الحدائق المهندسة جنان أبو سعيد لـ “أحوال” إلى أن ّ “شجرة الزنزلخت لم تكن مرغوبة في مجال هندسة الحدائق”، ورأت أن “الناس بدأوا منذ نحو عشر سنوات الإهتمام بها، مستفيدين من ثورة الإتصالات والمعلومات؛ فبعد موجة الحداثة والتشبه بالغرب واستيراد أغراس بملايين الدولارات من الخارج على (الزنزلخت) عادت هذه الشجرة لتحتلّ مكانة مهمة كنوع من أشجار الزينة، نظرا لقيمتها الجمالية من جهة، ولأهميتها البيئية والصحية من جهة ثانية”.
وقالت: “إن إعادة الإعتبار لشجرة (الزنزلخت) أمر مهم كونها بيئية بامتياز، وتقضي على الحشرات وتجعلها بعيدة عن نطاق السكن، وهي إلى ذلك شجرة جميلة تصلح للزراعة في الحدائق العامة ضمن رؤية هندسية تلحظ التنوع بما يستحضر الجمال والفائدة في آن”.
ولفتت أبو سعيد “لدي في المشتل (الزنزلخت) المحلي”، لافتة إلى أنّ “الإقبال على شرائها كان كبيراً، ولكن هذه السنة تراجع البيع بسبب جائحة كورونا والظروف الصعبة التي نمر بها”.
الزنزلخت بديلاً عن “النفتالين”
ولا يقتصر الأمر على العودة لزراعة “الزنزلخت” فحسب، لا بل عاد المواطنون، ولا سيما في الريف إلى استخدام ثمارها وأوراقها بديلاً كمادة طبيعية لمكافحة العث والحشرات، وهذا ما أكدته نورا نصر من المتن الأعلى، فقالت لـ “أحوال”: “كنا في الماضي نضع ثمار الشجرة وهي عبارة عن حبوب صغيرة خضراء وبعضاً من أوراقها عندما نقوم بلف السجاد لحمايته من العث والحشرات بدلاً من حبوب (النفتالين) المعروفة”.
وأشارت إلى أنّه “بعد المخاوف من استخدام المبيدات السامة بدأ الناس يعتمدون ثمار (الزنزلخت) وأوارقها في حماية السجاد والملابس وغيرها، بما في ذلك المكتبات لحماية الكتب”.
ملاعب: شجرة مهمة للطبيعة
ولتكوين صورة أشمل وأعم، ومن وجهة نظر علمية بعيدا مما تحفل به مئات وآلاف المواقع غير الموثوقة علمياً، التقينا الخبير في العلوم الطبيعية نديم نصار ملاعب، فأشار إلى أنّ “هناك أنواعاً عدة من الزنزلخت، لكن موطنها الأصلي الهند، وهو الأهم لجهة الفعالية كطارد للحشرات Insect Repellant””، لافتاً إلى أنّ “هذه الشجرة استُقدمت إلى لبنان منذ زمن بعيد، وكأي شجرة غير مستوطنة، أو أي كائن حي يتكيّف مع البيئة المحيطة وتتطور جيناته، وهذا حال (الزنزلخت) المعروف في لبنان، وهو مختلف عن ذلك الموجود في سوريا والبلاد العربية الأخرى، وهناك النوع الأوروبي والأميركي الذي يُستخدم كزينة في الحدائق”. بالمقابل، حذّر ملاعب من “استيراد نباتات دخيلة لما قد تحوي من آفات يمكن أن تكون موجودة في تربتها أو في جذورها وأغصانها”.
وقال الخبير في العلوم الطبيعية: “(الزنزلخت) شجرة مهمة للطبيعة إن زرعت في الأماكن المناسبة، وعند زرعها يجب مراعاة أن تكون بعيدة من الأراضي الزراعية، لسميّتها على الحشرات وتأثيرها على التوازن الطبيعي Eco Balance، خصوصاً على مستوى التربة والهواء والكائنات الحية، إذ تقضي على الحشرات المفيدة، فضلا ًعن سميّة البذور عندما تتساقط، وهي لا تنتج الأوكسجين كالأشجار الحرجية، ولكنها تتفوّق عليها في امتصاص الكربون”.
إشارات الطبيعة
وشجع ملاعب المواطنين على “زراعتها لامتصاصها الكربون من الهواء”، لافتاً إلى أنّه “خلال المئة سنة الأخيرة ابتعدنا عن الطبيعة، فأجدادنا كانوا على تماس مع الطبيعة، وتعلموا أن يفهموا إشاراتها، عبر الأخطاء والملاحظات، ما أكسبهم خبرة في التعامل معها، وكانت بالمقابل تعلّمهم، لكن بممارساتنا الخاطئة تعدّينا على الطبيعة، ونأمل أن تسامحنا، فهي تسير بنظام دقيق، ومتوازن ومقفل “Closed System” أي أنّ العناصر الموجودة فيها (الهواء والتربة والمياه) يجب أن تظل في توازن معين، وليس لنا حق بالتدخل فيه”.
ورأى ملاعب أن “أي تدخل قد يتسبب باختلال هذا التوازن، لجهة المبيدات والأسمدة الكيماوية وغيرها، وهو ما نشهده في زراعاتنا، وما نحاول أن نستعيده عبر تركيب الأدوية والأسمدة العضوية”.
أنور عقل ضو