صحة

الشركات تبتز المواطن… وأدوية لبنان الرخيصة إلى العراق

يُعدّ قطاع الدواء من أكثر القطاعات أهمية في كل دول العالم، التي تحرص على إيلاء هذا القطاع أهمية خاصة، والعمل على تطويره من خلال مجموعة من التشريعات القانونية والنظم العلمية والأبحاث في مجالات الانتاج. أمّا في لبنان، فإنّ العمل الجاد على تطوير هذا القطاع يكاد يكون مدعوماً. فكل ما هو علمي ومفيد ويصبّ في مصلحة صحة المواطن هو في دائرة الاستبعاد والإهمال لصالح شركات الأدوية الكبرى التي تحتكر الجزء الأكبر من هذا القطاع وسط سكوت الدولة وتشجيعها للمحتكرين.

“البراند والجنريك”

يرى نقيب الصيادلة في لبنان الدكتور “غسان الأمين” في حديث لـ “أحوال” أنّ السياسة  المتَّبعة في لبنان حالياً فيما يخص قطاع الأدوية هي سياسة خاطئة، ويضيف أنّها كانت قبلاً سياسة ناجحة عندما كانت قيمة سعر صرف الدولار الأميركي توازي بثلاث ليرات لبنانية، ولكن اليوم تغيَّر وضع الدولار، ولم تتغيّر السياسة الدوائية عندنا، “في كل دول العالم التي يهمها المحافظة على اقتصادها تتبع سياسية دوائية واحدة، أمّا في لبنان فإنّ الساحة متروكة للفساد والاحتكار”.

من المعروف أنَّ في عالم صناعة الدواء نوعين من الأدوية. هما “البراند” والمقصود به عندما يقوم أحد مراكز الأبحاث بالتوصل لاكتشاف تركيبة دوائية معينة لعلاج أحد الأمراض، بحيث يحصل على براءة اختراع من منظمة الصحة العالمية، وبالتالي يصبح من حقِّه، حصراً، تصنيعُ هذا الدواء وإعطاؤه اسماً تجارياً معيناً وبيعه في الأسواق بالسعر الذي يراه مناسبا ً لفترة زمنية محدودة، وذلك من أجل استرداد تكاليف الانتاج، والتي هي تكاليف باهظة. أما بعد انتهاء هذه الفترة فيصبح من حقّ مصانع أدوية اخرى تصنيع نفس الدواء، وبنفس التركيبة، وبنفس فعالية العلاج، وإعطاؤه اسماء تجارية مختلفة وإنزاله إلى الأسواق بالسعر الذي تراه مناسباً، والذي يكون عادة أقل من سعر المنتج الأم، وهذا ما يسمى بالدواء “الجنريك”.

ويقول الأمين “في كل دول أوروبا وأميركا هناك حوافز تُعطى للصيادلة من أجل تشجيعهم على وصف الدواء “الجنريك” للمرضى، وهذا ما يفسر انخفاض الفاتورة الدوائية في كثير من دول العالم”. ويوضح نقيب الصيادلة أنّ نسبة استهلاك الدواء الجنريك في أميركا هي تسعون بالمئة، أما في أوروبا فهي تبلغ اثنين وسبعين بالمئة. ويتابع قائلاً: هذا في دول الخارج أما في لبنان، فإنّ المشهد مختلف تماماً، فنحن هنا مازلنا نعتمد على الدواء “البراند”، وذلك خدمة للفساد والاحتكار، ويصف الأمين الفساد في لبنان بالفساد “المقونن”، ويقول: “كثيرون لا يعلمون أنّ هناك قانوناً في لبنان يمنع على الصيادلة بيع الدواء الجنريك للمرضى بدون إشارة من الطبيب”، ويؤكّد على ضرورة الإلتزام بالوصفة الطبية التي تحمل توقيع الطبيب وختمه، ويستطرد قائلاً: “الظلم في الموضوع أنّ معظم الأطباء في لبنان يذهبون في وصفاتهم الطبية نحو مراعاة شركات الأدوية التي ترى أنّ من مصلحتها أن يكون الدواء “البراند” والذي هو أغلى ثمنا سيِّد الموقف في الصيدليات، في حين أنّ مصلحة المواطن هي في الدواء “الجنريك”، والذي له نفس فعالية العلاج، وهو أرخص ثمناً، بمقابل تجاوب الطبيب مع رغبات شركات الأدوية، حيث تحرص هذه الشركات على “إحاطة الطبيب برعاية خاصة مجزية.”

الدولة متواطئة

ويجرى نقيب الصيادلة مقارنة بين الفاتورة الدوائية في لبنان والفاتورة الدوائية، في دول الجوار، مقدماً الأردن كنموذج فيقول: “بالرغم من أنّ عدد سكان لبنان لا يتجاوز الأربعة ملايين نسمة، فإنّ فاتورة استيراد الدواء تبلغ قيمتها ملياراً وأربع مئة مليون دولار أميركي. في حين أنّ الأردن والذي يبلغ عدد سكانه أحد عشر مليون نسمة، فإنّ قيمة فاتورته الدوائية لا تتجاوز الـ خمسمائة مليون دولاراً سنوياً. “مع العلم أنّ هناك في الأردن صناعة دوائية، تبلغ قيمتها السنوية ثماني مئة وخمسين مليون دولار سنوياً، يُستخدم منها خمسمائة مليون دولار في الاستهلاك الداخلي، فيما يصدّر الباقي الى الخارج، وتبلغ نسبة الدواء الجنريك من هذه الصناعة  بحدود الـ 70%.”

ويضيف الأمين أنّ كل ذلك يقودنا إلى القول إنّ النظام الدوائي في لبنان هو نظام مصمَّم من أجل خدمة شركات الأدوية العملاقة، والتي يهمها أن تظل الأدوية الغالية الثمن تتصدر قائمة المبيعات، بادياً أسفه لوجود هذه  المعادلة في لبنان، وهذا النمط من التفكير، والذي هو ضد مصلحة المواطن العادي. “فبدل أن تذهب الدولة اللبنانية نحو تشجيع  الصناعة الدوائية المحلية عبر إعفائها من الرسوم والضرائب، وتقديم الحوافز للصيادلة لتشجعيهم على بيع الدواء الجنريك، نراها متواطئة مع جيوب كبار المستوردين”.

رفع الدعم وانهيارات في القطاع

اليوم وقد دخل لبنان في أزمة مالية خانقة، وصلت تداعياتها إلى حد الحديث عن قرب رفع الدعم عن سلع أساسية من بينها الدواء، يسأل المواطنون كيف سيكون المشهد في حال وصلنا إلى هذا اليوم المشؤوم؟

لا يخفي نقيب الصيادلة قلقه من الوضع خاصة أنّ الإنتاج المحلي من الدواء في لبنان لا تتجاوز قيمته 8% من إجمالي الفاتورة الدوائية، وهو إنتاج ضئيل جداً نسبة لحاجة السوق اللبناني من الأدوية. أما الحلّ برأي غسان الأمين فهو “من خلال خطة إصلاح شاملة لقطاع الدواء في لبنان تبدأ بإلغاء الرسوم على الصناعة المحلية؛ وصولاً إلى إنشاء المختبر المركزي. لكن كل ذلك يحتاج الى وقت ليعطي ثماره. وحتى يأتي هذا الوقت وتصبح الصناعة الدوائية المحلية تحتل مكاناً متقدماً على الصعيدين العربي والعالمي، فإنه لا يوجد أمامنا سوى أن يستمر البنك المركزي بدعم سعر الدواء، وإلا فإنّنا سنشهد ارتفاعاً مخيفاً في سعر الدواء قد يصل إلى خمسة أضعاف سعره الأساسي”.

إلى ذلك، قرعت بعض وسائل الإعلام جرس الإنذار، حيث نقلت أخباراً عن بعض المصادر تحدثت عن إمكانية رفع الدعم عن الدواء. هذه الأخبار سرت كالنار في الهشيم في أوساط المواطنين الذين تهافتوا على الصيدليات واشتروا بكميات تفوق حاجتهم من الأدوية خوفاً من انقطاعها. هذا التهافت أدى إلى نقص حاد في المخزون لدى شركات الأدوية فبدل أن يكون كافياً لأربعة أشهر بات لا يكفي لشهر ونصف.

لا يخفي نقيب الصيادلة قلقه من هذا المشهد: والذي يقول: “هناك أكثر من 80% من الشعب اللبناني مغطَّى صحياً لدى الهيئات الضامنة مثل الضمان الاجتماعي وتعاونية موظَّفي الدولة ومؤسسة الجيش وقوى الأمن الداخلي. هذه المؤسسات ستفقد قدرتها على التغطية في حال تم رفع الدعم عن الدواء. كما أن عدداً كبيراً من الصيدليات ستجد نفسها مضطرة للإقفال، وسنشهد خروجاً لعدد كبير من شركات الأدوية من السوق، وهذا بالتأكيد سيؤدي الى دخول كميات كبيرة من الأدوية المزوَّرة والمهرَّبة إلى الأسواق اللبنانية”.

وهل يمكن مواجهة الموقف بالذهاب إلى شراء الأدوية من الدول المجاورة التي لديها صناعة دوائية محلية؟ يجيب نقيب الصيادلة على هذا السؤال: “قبل أن نذهب لشراء الأدوية من الدول المجاورة التي لديها صناعة دوائية، والتي هي جنريك، يجب أن يكون لدينا أولاً مختبر مركزي  لفحص الأدوية، قبل السماح ببيعها في الصيدليات”. هذا المختبر غير موجود في لبنان حتى الآن، بالرغم من أن تكلفة إنشائه لا تتجاوزالـ 12 مليون دولار، “ولكن لعدم إنشائه أسباباً أخرى أهمُّها عدم السماح للدواء “الجنريك” بالنزول إلى الأسواق”، وإبقاء السيطرة للشركات الكبيرة التي تبيع الدواء “البراند” بأسعار غالية الثمن، وهذه قمة الفساد.”

ويقول نقيب الصيادلة، “ليس المختبر المركزي وحده ما يتم إهماله من قبل الدولة اللبنانية، هناك أيضا المكتب الوطني للدواء، والذي من مهامه القيام بشراء الدواء من الخارج بنصف السعر، وبجودة عالية، ومن دولة لدولة. هذا المكتب جرى العمل به لفترة زمنية قصيرة، عام 1998، ولكنه عاد وتوقف بعد اكتشاف عمليات فساد قام بها مدير المكتب الدكتور “ق.ح”، والذي تم على أثرها إدخاله الى السجن بعد محاكمته. ومنذ ذلك الوقت والمكتب متوقف عن العمل.”

أين تذهب الأدوية الرخيصة الثمن؟

منذ فترة استفاق اللبنانيون على اختفاء الأدوية الرخيصة الثمن “الجنريك” من الصيدليات، وخاصة تلك التي تستخدم في علاج الأمراض المزمنة من الأسواق، بحيث أصبح المواطن مضطراً لشراء الدواء الغالي الثمن “البراند”. الأمر الذي شكَّل إرهاقا مادياً لذوي الدخل المحدود.  أين تذهب هذه الأدوية ؟

يجيب النائب السابق “إسماعيل سكرية” عن هذا السؤال، فيقول: “اختفاء الأدوية الرخيصة الثمن هي وسيلة ضغط من قبل شركات الأدوية في لبنان، لإرغام المواطن على شراء الدواء البديل الغالي الثمن.  ويضيف، هناك أدوية صناعة محلية اختفت من الأسواق اللبنانية، وتبيَّن أنها بيعت خارج لبنان بالدولار الأميركي، وتحديداً في العراق. كذلك هناك أدوية يتم استيرادها من الخارج لصالح السوق اللبناني، ولكن ما إن تصل الى بيروت، حتى يتم شحنها إلى العراق، لتباع هناك بالدولار الأميركي، وكل ذلك يجري تحت أنظار الدولة اللبنانية، والتي هي غائبة عن السمع. في حين أنّه يجب على وزارتي الصحة ووزارة الاقتصاد أن تأخذا دورهما كاملا في هذا الموضوع الحيوي. الدكتور سكرية يدعو الحكومة  إلى القيام بمنع تصدير دواء مصنّع محلياً كبديل عن مفقود الى الخارج، ويسأل أين أصبح المكتب الوطني للدواء؟ وما الذي يمنع قيامه؟ ولماذا تم خنقه، وهو الذي تقع عليه مهمة استيراد الدواء وبنصف الثمن وبنوعية جيدة؟

وبسؤالنا عن دور نقابة الصيادلة في عملية تنظيم سوق الدواء المحلي، يجيب “سكرية”: إنّ فعالية النقابة لا تزال محدودة في هذا المجال، وعلى الدولة القيام بتطبيق قانون مهنة الصيدلة بشكل فاعل، كما أنّ عليها عدم المبادرة إلى تفعيل المكتب الوطني للدواء، الامر الذي سيؤدي حتما إلى انخفاض كبير في كلفة فاتورة الدواء.

نبيل المقدم

 

 

 

 

 

نبيل المقدم

كاتب وصحافي وباحث سياسي لبناني. صدر له العديد من المقالات والمؤلفات ابرزها "وجوه واسرار من الحرب اللبنانية".

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى