مجتمع
أخر الأخبار

بعد الجميزة… “أحوال” تستطلع مار مخايل: دمار ما بعده دمار  

ما ان تمشي لعلّك تبلغ الطريق المؤدي إلى كنيسة مار مخايل حتى يزعَط صوت الهوبرلور في أذنيك: “حديد عتيق للبيع”… “نحاس عتيق للبيع”، فتنبغِت وترتجف قليلاً. تمرّ عليك لحظات معدودات لتستفيق من “النقزة”، وتدرك أنّ “بيك آب” يمرّ إلى جانبك، فتحاول أن تهرب منه بسرعة كي لا يدهسك، فتلتصق بسيّارة متفحمة إلى جانب الطريق، وينطّ شاب من البيك آب لـ”يُكمِّش” ما تيسّر له من حديد ونحاس مَزتوت على الطرقات ويضعه في الصندوق… هذا ليس مشهداً سينمائياً، بل هو واقع يومي يعيشه سكان منطقة مار مخايل بعد انفجار مرفأ بيروت…

على يمين الطريق الممتد من الجميزة إلى مار مخايل وشماله، “تَتصَبّح” بأعداد لا تحصى من السيارات المحترقة، والتي ما زالت في أماكنها منذ انفجار 4 آب، تنتظر مَن يرفعها من أمكنتها…

Photo by: Khaled Ayyad

مطعم uniun بحلّته الجديدة

ووسط هالات الدمار التي تحيط بك من كلّ جانب، يتلألأ مطعمuniun  بحلّة جديدة، ويبتسم لك لكي يستضيفك… تدخل، فإذا بصبيّة تضجّ بالحياة والجمال تستقبلك بابتسامة مُحببة، إنها ريم سنجر… تقول لك بصوتها الحنون: “أهلا وسهلا… تفضّل”. وعندما تعلم بأنّك جئت في مهمّة صحافية، تعاوِد الابتسام وتقول: “شو بدّك تَعرف؟ فيّي قِلّك إنّو “عمِلنا نَفضَة كتير قويّة بالمطعم”… وبعد أن رمّم مالِكه الأضرار الهائلة فيه على نفقته الخاصة، بدأنا باستقبال الزبائن منذ أوائل هذا الأسبوع بنسبة 50 في المئة…”. وعندما تقول لها: “الدمار ما زال هائلاً… كيف تقدرون على العَيش هنا؟!! تجيبك بحماس لافت: “نحنا بَدنا نرجَع نعَمّر بيروت… هنّي بيدمرونا ونحنا منرجع نوقَف عا إجرينا لَو شو ما صار… ما رح نِستسلم ورح نرجع نعَمّر ونكَمّل…”.

Photo by: Khaled Ayyad

ريم سنجر وابتسامتها المُحبّبة

تتعجّب من إصرارها على الحياة، وإقبالها على مَباهجها، فتسألها بخجل: “برأيك، مِن هَلّق لـ سنة، هالمنطقة رح ترجع تعيش؟” فترد عليك بكِبَر: “أكيد رح ترجَع تعيش… لأنّ البَشر الموجودين هنا يمتلكون طاقة رهيبة لإعادة إعمار ما هدّمه الانفجار…”.

تابعوا أيضًا: بعد ستة أسابيع على انفجار مرفأ بيروت… جولة لـ “أحوال” على أهالي الجميزة

وبعد أن ترتشف فنجاناً من القهوة اللّذيذة، تترك المطعم وأنت ما زلت مدهوشاً من أنفة هذه الصبيّة وكبريائها… تتمشّى في شارع فرعون فتلاحظ أنّ هناك شبّاناً وشابات يقومون بأعمال التنظيف، يرتدون لباساً موحّداً، ويزيلون الردميّات والأوساخ عن تروتوار الشارع بنشاط لافت، والبسمة على وجوههم، لا يكلّون ولا يتأففون من شيء، على رغم أنهم يعلمون أنّ صورة الدمار هذه ستبقى واقعاً معيوشاً لأشهر طويلة مع تكاثر الردم على جوانب الطرقات وأمام الأبنية المدمّرة…

 

Photo by: Khaled Ayyad

نشاطهم لافت

تقترب من بناية ببازيان، فتلاحظ أنّ هناك رجالاً يجلسون على كراس أمام مطعم بارون شبه المدمّر، تحييهم فيردون التحية بوجوه كالحة، فتسألهم عن صاحب المطعم، فيقف شاب من وسطهم، ويقول: “أنا إتيان صبّاغ، صاحب المطعم، تفضّل “سَولِف معنا”… يضحك الشباب من حوله، فتُسائل نفسك: هل يضحكون عليّ أم انهم يضحكون على حالتهم التي يُرثى لها؟ يقدّم لك إتيان كرسيّاً لتجلس إلى جانبه، ويبتسم لك قائلاً: “شوف الدمار حولَك وحواليك… عن شو بدّك تسألني؟!”… فتقول له: “بدّي شوف شِقَق عم ينشَغَل فيها”. فيجيبك: “مَشّي مَعي”… ويأخذك إلى شارع مُواجه لشارع فرعون، فتتحقّق من أنّ هناك عمّالاً يشتغلون في بنايات مهدمة كليّاً جرّاء عصف الانفجار… ينظر إليك إتيان، ثم يقول: “فرح العطاء” تبنّت هذا الشارع لأنّه من أكثر الشوارع التي دمّرت، ولقد انتشلنا منه 12 جثة في اليومين الأولين من الانفجار… وكما ترى الشغل هنا مُمنهَج ومستمر، فكل حائط مُضَعضَع يهدمونه ويعمّرون حائطاً مكانه… وكل المحلات في الطوابق الأرضية يوجد فيها مَكنات نجارة وألومينيوم، والعمّال يصنعون الشبابيك في أرض الشقق المدمرة، ثم يدهنونها ويركبونها في أمكنتها الأساسية… كما يقومون بتعمير واجهات البنايات بكلّ حرفية…”. وعندما تسأله لماذا لم يفتح مطعمه ليرتاده الزبائن؟ يتنهّد بحسرة ويجيب: “من وين بتجيب المصاري تا تصَلّحو ؟!!”.

Photo by: Khaled Ayyad

إتيان صبّاغ أمام مطعمه المدمّر

تعود مع إتيان إلى بناية ببازيان، فيقترب منك شاب، ويُفاجئك بكلامه: “أنا  كريكور عرباجيان، ساكن بهالبناية المَقهورة بالطابق التالت… إنت صحافي؟”. فتجيبه: “نعم… وبتقدَر تحكيلي عن وجعَك وقهرَك وتفِشّ خلقَك”. فتلاحظ انّ وجهه اكتحل بالغضب بعد أن ارتسَم الأسى في عينيه، ثم قال بسخرية لاذعة: “مش ملاحَظ إنّو المنطقة كتير حلوة والشغل ماشي بسرعة؟!!”… لكنّه عندما يعود إلى واقعه المؤلم، تراه يصرخ قائلاً: “شغل كتير بطيء… أنا أستنكر كل ما يجري من كسل وكذب في هذا الشارع استنكاراً شديداً… هيدي البناية قدّامك، بتِبرُم فيها شقة وشقة، ما في حدا شقتو خالصة، الشقق كلها منكوبة إلّا وحدة أو اتنين… “وإذا أنا كذاب، بتقدر تتأكّد وتشوف بعَينك”… أما البناية المواجهة لبنايتنا فالتصليحات فيها خجولة وبطيئة… هناك شقة بدأ مالكها بترميمها من جيبه الخاص بعد 3 أيام على الانفجار، وإلى الآن لم تنته عمليات الترميم، مع أنهم ساعدوه بالألومينيوم… أمّا الشقة المواجهة لشقته فقد رمّمتها المطرانية المارونية، التي ادّعت أنها سترمّم بنايات هذا الحَي كله، لكنّ الشغل خجول… خجول… فسطح شقتي مثلاً، ما زال مَفتوحاً، ولن أستطيع النوم فيها عندما تأتي “أوّل شَتوة”… وتسأله: “ماذا عن المساعدات التي قدّمتها الجمعيات؟” فيجيبك: “بصراحة أتت عدة جمعيات إلى هذا الحَي، ومعها صناديق مواد غذائية… وهناك جمعيات قدّمت لكل صاحب شقة 200 ألف ليرة لبنانية أو 300 ألف… لكن حتى هذه الساعة ليس هناك زجاج أو ألومينيوم كي نبدأ بتصليح شققنا… لذلك تلاحظ أنّ الناس مَنكوبة…”. ثم يصرخ بصوت أعلى: “إذا بدو يضَلّ الشغل هَيك، أنا رح جَمِّع أهالي الحَي وننزل عالأوتوستراد ونعمل مظاهرة طويلة عريضة، ونقول فيها: ليش في أحياء بتِترَمَم فيها شِقق بسرعة، وأحياء بينشَغل فيها متل مَشية الزلحفة؟! وإذا بتشتّي قبل ما يصَلّحولنا شققنا رح نسَكّر الأوتوستراد، وألله مش رَح يشيلنا من هونيك”…

 

Photo by: Khaled Ayyad

كريكور عرباجيان وسط الشارع

بعد أن تسمع كلامه، تتحَقّق من هَول الكارثة التي يعيش فيها أهالي هذا الشارع، وتُدرك أنه من المؤكّد أنهم بحاجة إلى وقت طويل لإصلاح جزء يسير من هذا الدمار الذي يحيط بهم من كل جانب، فتُصاب بالخيبة… تركض نحو كنيسة مار مخايل بكلّ ما أوتيت من قوّة وعزم، لعلّ عينيك تكتحِل بصورة القديس الذي يصنع العجائب، فتتعثّر بالركام الذي ما زال يملأ المكان، وتهوي إلى الأرض قبل أن تبلغ الكنيسة… وأنت تصرخ من الألم، تشعر أنّ هناك يداً لمستك وساعدتك لكي تقف على رجليك، إنها يد جورج مسلّم، صاحب محل حلاقة للرجال مقابل لصالون الكنيسة ودرجها… يبتسم لك قائلاً: “الحمدالله عالسلامة… إنشالله ما صَرلَك شي”. فتجيبه وأنت تنفض الغبار عن ثيابك: “الحمدالله… اللّي صار عليكن أقسى بكتير”… فيصرخ: “دخيلك ما تزكّرني… اتركني إنسى… مبارح بعدني دافِع من جَيبتي 13 مليون ليرة حَق القزاز والألومينيوم لواجهِة محلّي”… ثم يضرب يده على رأسه ويضيف: “محلّي مدمّر وشقتي كذلك. وإلى الآن لم أصلّح أي شيء فيها، لأنني كنت أمام خيارين: إمّا أن أدفع أقساط أولادي للسنة الدراسية الحالية، وإمّا أن أرمّم بالنقود التي بقيت معي بعضاً من شقتي المدمّرة، ففضّلت أن يتعلّم أولادي الثلاثة… ودفعت عن كل ولد مبلغاً وقدره مليون ونصف ليرة لبنانية”.

Photo by: Khaled Ayyad

جورج مسلّم محله وشقته مدمّران

هنا يتدخل جاره فؤاد أبو يارد، ويدلّ بيده إلى باب البناية ويقول: “باب مدخل هذه البناية اشتريته من مالي وركّبته على نفقتي الخاصة، علماً أنّ ثمنه بلغ 3,570,000 ليرة لبنانية”. فسألته مستغرباً: “ولماذا تدفع من جيبك الخاص وهناك جمعيات تؤمّن لكم كل شيء؟!!” فتضاحَك ملء شفتيه، ثم أجاب: “سَمعنا أنّ مندوبين من غرفة التجارة والصناعة جاؤوا لأخذ قياسات بُغية تركيب الألومنيوم والزجاج في شقق البنايات المهدّمة، وما زلنا نعيش في مَباهِج هذا الحلم… خوفي بعد أيام معدودات أن تدخل الأمطار إلى الشقق المصدّعة وتخرّب كل ما تبقى منها… ألله يساعدنا وألله يساعِد بلدنا… عا مين بدنا نِضغط كرمال يساعدنا؟!! ما البلد كلّو رايح… أنا الآن يائس… يائس… يائس…”.

Photo by: Khaled Ayyad

فؤاد أبو يارد: يائس… يائس… يائس

تهرب من هذا الشارع وأنت مُصاب بدوار أين منه دوار البحر في عزّ الظهيرة… تتعَكّز على أحلامك التي تتسابق مع لسعات الحر التي تنشب أظفارها في جسدك المُنهَك وفِكرك المشلول… فتصطكّ ركبتاك ألماً وحسرة ووهناً… وتهوي إلى الأرض حالماً بوطن لا ظلم فيه ولا غدر…

 

طوني طراد

 

 

 

طوني طراد

كاتب وصحافي لبناني. حائز على ماجستير في اللغة العربية من الجامعة اللبنانية. صدر له عدة دراسات سياسية وأدبية ابرزها كتاب "صورة المرأة في شعر ميشال طراد".

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى