تأكلك الحسرة وتَكتسحك الهموم وأنت تمشي في شوارع الجميزة بعد ستة أسابيع على انفجار مرفأ بيروت، فالدمار ما زال معشّشاً في كل مبانيها ومعالمها الأثرية، حتى أنّ أرصفتها ما زالت مرتعاً لكلّ أنواع الردميات والأوساخ، على الرغم من وجود عمّال النظافة وشبّان الجمعيات وشاباتها الذين يشتغلون بهمّة ونشاط لافتين آملين في أن يعيدوا الرهجة إلى أمكنة كانت قبل ستة أسابيع مسرحاً للّهو والغناء…
تقف أمام شركة الكهرباء، فتلاحظ أنّ طوابقها الكثيرة ما زالت مدمّرة، حتى أنّ شبابيك المكاتب “مش مْمَعجَنِة وما فيها قزاز”، كما يقول أحد العمّال الذي اكتفى بهذه العبارة المختصرة، رافضاً التصريح عن اسمه مخافة أن يعاقبوه… وعندما تهمّ بأن تسأله عن شيء جديد، تراه يهرب منك متّجهاً نحو خِيَم عند مدخل الشركة لعمّال بعضهم استفاق وبدأ الشغل وبعضهم ما زال نائماً في فراشه على الرغم من أنّ الوقت تخطّى العاشرة صباحاً…
المحلات مقابل شركة الكهرباء شبه خالية، وعلى بعد 50 متراً من هذه الشركة، تقف أمام بناية حيث يجلس 4 رجال يتباحثون في كيفيّة إزالة الدمار الذي ما زال واضحاً في البناية حيث توجد محالهم… وعندما تسأل غسان زيتون، صاحب محل خرضوات في أسفل البناية، عن محلّه الذي أصبح مدمّراً جرّاء عصف الانفجار، يتنهّد، ثم يقول بأنفة: “حاليّاً أنا أقوم بإعادة التصليح، وقامت جمعية “تمنّى” بتركيب واجهة الألومنيوم، كما أنّ “جمعية جورج افرام” سوف تقوم بإعادة تركيب إمدادات الكهرباء…”. وعندما تسأله عن حركة المبيع في محلّه، يتنهّد، ثم يقول بحسرة: “على ألله”.
وبعد أن تتمنّى له دوام الصحّة، تمشي مسافة 3 أو 4 كلم، فتلاحظ أنّ الإقفال شبه تام، ولا أحد يظهر على بلكونات الشقق… هناك حركة خجولة في هذا الشارع مع أنّ الساعة أصبحت الحادية عشرة صباحاً: بعض المارّة يتجوّلون، وهناك حرّاس على ما تبقى من المؤسسات، مع وجود خجول لعناصر قوى الأمن الداخلي وبعض الدوريات الراجلة التي يقوم بها عناصر من الجيش اللبناني…
تصعد على درج الجميزة فتراه مسوّراً ببعض الإطارات الحديدية وهناك عنصر من الدرك يقف على أوّله… الحركة عليه معدومة مع أنّه كان سابقاً في حركة لا تهدأ… صاحبthe grand mesh mosh hotel ، الذي ما زال يرفع آثار الدمار من داخل المقهى الذي يملكه هناك، يقول لك: “فيّي إحكي معك دقيقتين بَس، ومش أكتر”… ثم يتقدّم نحو باب المقهى ويبتسم لك قائلاً إنّه “دمّر بالكامل، وهو يقوم بتصليحه من دون أن يتّكل على مساعدات الجمعيات… أبواب المقهى مفتوحة منذ 9 صباحاً وحتى 12 ليلاً… حركة البيع خجولة، علماً أنّ هناك صحافيين لبنانيين وأجانب يأتون إلى هنا لإقامة ريبورتاجات لمختلف وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة”.
تتركه لتصعد الدرج قليلاً، فيَتّضح لك أنّ هناك من يقوم بأعمال الدهان لشبّاك شقة هنا وشقة هناك، وتلاحظ بعض الألبسة المنشورة على بلكونات بعض الشقق ما يدلّ على أنّ هناك أناساً يسكنونها صيفاً…
مقهى lost مقابل درج الجميزة “يفتح أبوابه من الـ11 صباحاً لغاية 7 مساء… ويقدّم قهوة ومشروبات روحية… وهو بانتظار عودة الكثير من زبائنه الذين فرّقهم الانفجار”، هذا ما صرّح به مديره، بعد أن اعتصره الألم على الدمار الذي يعيش بين حناياه…
مدرسة الثلاثة الأقمار ما زالت قيد التصليح، علماً أنّ “جمعية Arc en ciel رفعت الردم من أنحاء مختلفة من المدرسة”، كما صرّحت مسؤولة في إدارتها، وأضافت: “إننا نرسل ملفات الأضرار الى وحدة الاغاثة في الجيش اللبناني، لكن الى الآن لا مساعدات”… وعندما تسألها عن كيفية التعليم وسط هذا الدمار خصوصاً أنّ السنة الدراسية أصبحت على الأبواب، تقول: “هناك تلامذة يتسجّلون للعام الدراسي الحالي، ولكن من المستحيل أن نفتح صفوف الدراسة في 28 أيلول، كما قرّر وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال”.
ما ان تفتح باب صيدلية vital حتى تستقبلك الدكتورة عايدة الحاج، وتسألك: طالِع عا بالَك تشتري دوا ؟ وتبتسم عندما تعرف أنك تقوم بتحقيق ميداني، وبعد لحظات من التفكير، تُوضِح “بعد 4 آب اضطررنا أن ندفع من جيوبنا لتصليح الصيدلية في منطقة توفّي سكانها جرّاء الانفجار أو هاجروا الى منازل أقربائهم، وحالياً هم خائفون من العودة الى منازلهم المدمّرة في هذه المنطقة… صاحب الصيدلية اشترى زجاج الواجهة، وجمعية “أجيالنا” اعتنَت بحيطان الصيدلية وسقوفها كي نستطيع استقبال الزبائن… الأدوية في الواجهة طارت وتكسّرت وسُرقت بعد الانفجار… وهناك أدوية لا نقدر أن نشتريها بعد رفع الدعم عنها وفي ظل ارتفاع الدولار، لذلك تلاحظ أنّ هناك رفوفاً في الصيدلية شبه خاوية…”.
مقهى the plub الذي يفتح أبوابه من 8.00 صباحاً الى 12 ليلاً، يوضِح صاحبه قاسم ملّا أنه “بدأ بتصليحه بعد 4 أيام على الانفجار، وبعد أسبوعين أصبح يستقبل الزبائن الذين يقلّ تواجدهم بعد العاشرة ليلاً عندما يقوم الدرك بإقفال الطريق مخافة اشتداد السرقة، لكننا نعتمد على الزبائن الذين يأتون إلينا سيراً على الأقدام”… واللّافت أنهم “يوزّعون المناقيش على الصاج مجاناً للمارّة والمُسنّين والعائلات الفقيرة… أمّا أنواع المشروبات فما زالت كما هي، مع بعض الزيادة في الأسعار”…
في الشارع المقابل وعلى بعد 100 متر من هذا المقهى يطالعك محل كوكتيل ج. مخلوف الذي يفتح أبوابه من 9 صباحاً الى 6 مساء على رغم نُدرة الزبائن. وعندما تلاحظ أنّ الحركة خفيفة جداً، تسأله: لماذا تفتح مع أنّ الحركة خفيفة؟! فيجيبك بحسرة: “فاتِح لـ قول إنّي فاتِح”…
تمشي نحو مدرسة الفرير، التي كانت سابقاً تعجّ بالتلامذة والحركة، فتلاحظ أنّ حجم الدمار فيها ما زال هائلاً… وتصرّح سكرتيرتها الإدارية بأنّ “معظم غرف المدرسة تدمّرت جرّاء الانفجار… والتصليحات الأولية كلّفتنا الى الآن أكثر من مليون ونصف دولار أميركي، دفعناها من صندوق المدرسة… هناك وعود بالمساعدة المالية من المؤسسات شرط أن نُبرز الفواتير المدفوعة… كما أنّ هناك مساهمات مالية إفرادية من قدامى المدرسة، وتحاول الرهبنة أن تساعدنا…”. وعن بداية العام الدراسي لهذه السنة تقول “إنّ تلامذة البروفه والترمينال بدأوا يدرسون بواسطة الأونلاين منذ 14 أيلول، وستبدأ بقية الصفوف الابتدائية والمتوسطة والثانوية الدراسة عبر الأونلاين أيضاً منذ 21 أيلول…”. ولا تقدر أن تخفي حسرتها عندما تقول: “عدد التلامذة الجدد ضئيل إذا ما قارنّاه بالأعوام السابقة…”.
تغادر الجميزة سيراً على الأقدام محاولاً أن تعود بذاكرتك إلى حياتها الصاخبة لعلّها تنسيك هول الدمار الذي رأته عيناك في كلّ مَعلَم من أماكنها… وإذا كانت مؤسستا الرئيس رينيه معوّض والتجمّع النسائي الديمقراطي اللبناني تعتنيان بالمعالجة النفسية لأطفال هذه المنطقة وأولادها بعد انفجار مرفأ بيروت، فمن المؤكّد أننا كلنا أصبحنا بحاجة الى أطبّاء نفسيين بعد أن نتجوّل في أحياء الجميزة ونتحقق من معاناة شعبها…
طوني طراد