يعرف الرئيس المكلّف تأليف الحكومة في لبنان مصطفى أديب أن تغيير أعراف البلد ليست مسألة سهلة. لو كان يُمكن لأيّ رئيس حكومة أن يُطيح بعادات تركيب الحكومات، ما كان ليتعاون مع القوى السياسية. لكن طبيعة النظام اللبناني، الطائفي والسياسي والمناطقي، فرضت على أي رئيس للحكومة التفاهم مع زعماء الكتل النيابية الوازنة اولاً، ثم التنسيق مع رئيس الجمهورية بشأن إستيلاد مجلس وزراء جديد.
يحاول الآن أديب أن يخطو بإتجاه فرض معادلات جديدة تتلائم مع الدستور، ولكنها تنسف الأعراف. فما هي الأسباب؟
توحي كل المعطيات أنّ رئيس الحكومة عازم على تقديم تشكيلة مصغّرة من ١٤ وزيراً، تراعي التركيبة الطائفية، لكنها لا تنسجم مع متطلبات القوى السياسية. كان ينوي أديب تقديم التشكيلة لرئيس الجمهورية ميشال عون عصر الخميس، لكن فرض الخزانة الأميركية عقوبات على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، جعل أديب يتريّث أياماً إضافية لتقديم ورقته في بعبدا، كي لا يظهر أنه يتماهى مع العقوبات المذكورة. قد يكون السبت او الإثنين هو موعد تسليم عون تشكيلة أديب الحكومية.
فإذا كان يعرف رئيس الحكومة أن رئيس الجمهورية قد يرفض التشكيلة، أو هو في حال قبلها ستُسقطها الكتل النيابية، فلماذا يصرّ أديب على الخطوة؟
تقول مصادر مطّلعة أن رئيس الحكومة يريد إصابة عصافير عدة بحجر واحد: اولاً، يستطيع ان يقول للفرنسيين إنه كان صادقاً معهم، وقادراً على إنجاز تشكيلة ضمن وقت حدّده الرئيس إيمانويل ماكرون ١٥ يوماً، من دون اي تقصير.
ثانياً، يحاكي أديب الشارع اللبناني المعترض، من خلال التأكيد له انه نفّذ وعده بحكومة إنقاذ بعيدة عن الجسم السياسي.
ثالثاً، يقدّم إشارة لافتة للعرب الخليجيين أنه لم يلب طلبات “حزب الله” وحلفائه بتأليف حكومة سياسية يتمثل فيها الحزب بشكل مباشر.
رابعاً، يثبّت دور مرجعيته السياسية في لجنة رؤساء الحكومات السابقين، ويجمع السنّة حولهم من خلال التأكيد للشارع أنه لم يخضع لأحد، وخصوصاً للتيار “الوطني الحر”.
خامساً، يحاكي صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية المانحة من خلال تقديم نفسه بأنه أهل للثقة عبر موقفه الثابت غير الراضخ.
كل ذلك يثبّت أديب وداعميه رؤساء الحكومات السابقين، كقوة فاعلة في موازين القوى الداخلية، لكن لا يقدّم حلولاً لبنانية، فماذا بعد؟
اذا رفض عون تشكيلة أديب -كل المعطيات تؤكد ذلك- فإن رئيس الحكومة المكلّف قد ينكفئ من دون ان يقدّم إعتذاراً، لينتظر جولة ثانية من المفاوضات السياسية، في ظل ضغوط خارجية كبيرة تتوالى، وأزمة إقتصادية تتمدد: من يتراجع اولاً؟
هنا، لا بدّ من وسيط تسووي لقيادة الإتصالات السياسية خلف الكواليس ومؤازرة المعنيين بالتأليف، وإزالة المطبّات من أمام مساعي أديب. لكن بالمقابل، هناك من يعتقد أن كل الخطوات الداخلية هي ملء للفراغ، بإنتظار تدخلات خارجية إيجابية، تتمثل اما بدور فرنسي اكثر فاعلية، واما بإتفاقيات إقليمية- دولية تنعكس في لبنان. اذا كان الأول مقدوراً عليه، فإن الخيار الثاني مؤجل لما بعد استقرار رئيس جديد للولايات المتحدة الأميركية. فهل تقدم فرنسا مجدداً لتذليل العقبات في مرحلة التأليف الثانية اللاحقة؟
اذا استحضرنا أسباب المد الفرنسي العاطفي تجاه بيروت، وهو ما بات معلوماً بشأن السباق مع تركيا في حوض شرق المتوسط، فإن ماكرون سيظل يمارس وساطاته وضغوطاته كي يصل لبنان الى حل حكومي بإشرافه. لكن العقوبات الأميركية اتت لتصيب المبادرة الفرنسية اولاً، ولترفع شروط القوى المستهدفة في لبنان خلال عملية تأليف الحكومة.
ما يُنتظر الآن حراك فرنسي متجدّد يخفّف من عناد أديب، ويدفع القوى لملاقاته في منتصف الطريق. قد لا تتوافر تلك الظروف قبل تقديم رئيس الحكومة المكلّف تشكيلته الأولى، لكنها قد تحل لوضع تشكيلة حكومية ثانية.
عباس ضاهر