الجرف القاري التركي والصراع في شرقيّ المتوسط
يتفاعل الصراع في شرقيّ البحر المتوسط حول أحقّية الدول المطلّة عليه في استخراج الغاز الكامن ضمن الحدود البحرية. وتجهد التحالفات في عرض عضلاتها العسكرية البحرية في رسائل متبادلة على شنّ حرب إذا اقتضى الأمر من أجل حماية مكتسبات كل دولة من النفط والغاز. واشتدّ ساعد تكتل منتدى غاز شرق المتوسط والذي يضم كل من مصر، اليونان، إيطاليا، قبرص، الأردن، والكيان الإسرائيلي في مواجهة تركيا ومطالبتها بتحديد حدودها البحرية ومنطقتها الاقتصادية الخالصة تحت مشروع بات يُعرف “بالوطن الأزرق”. وانضمت إلى مساندة هذا الحلف فرنسا الباحثة عن دور مفقود لها في منطقة البحر المتوسط. وهنا الإشكالية الكبرى: ما هي حدود تركيا البحرية وجرفها القاري؟وألا يحقّ لتركيا استخراج النفط والغاز؟ وعلى هذا الأساس تتحدّد أحقية ومشروعية الوطن الأزرق من عدمه.
الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة
تمتدّ المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى 200 ميل بحري من خطوط الأساس التي يُقاس منها عرض البحر الإقليمي إذا لم يكن الطرف الخارجي للحافة القارية يمتد إلى تلك المسافة، وللدولة حقوق سيادية لغرض استكشاف واستثمار الموارد الطبيعية، الحيّة منها وغير الحيّة، للمياه التي تعلو قاع البحر ولقاع البحر وباطن أرضه، وللدولة حفظ هذه الموارد وإدارتها، وكذلك فيما يتعلق بالأنشطة الأخرى للاستكشاف والاستغلال الاقتصاديين للمنطقة، كإنتاج الطاقة من المياه والتيارات والرياح، وذلك وفق المادة 56 من اتفاقية جامايكا عام 1982.
أما الجرف القاري كما ورد في المادة الأولى من اتفاقية جنيف لعام 1958 فهو “مناطق قاع البحر وما تحته من طبقات متصلة بالشاطئ تمتد خارج البحر الإقليمي إلى عمق مئتي متر أو إلى ما يتعدى هذا الحد إلى حيث يسمح عمق المياه باستغلال الموارد الطبيعية لهذه المنطقة”. وبموجب المادة 76 من قانون البحار يشمل الجرف القاري لأيّ دولة ساحلية ” قاع وباطن أرض المساحات المغمورة التي تمتد إلى ما وراء بحرها الإقليمي في جميع أنحاء الامتداد الطبيعي لإقليم تلك الدولة البري حتى الطرف الخارجي للحافة القارية، أو إلى مسافة 200 ميل بحري من خطوط الأساس التي يقاس منها عرض البحر الإقليمي إذا لم يكن الطرف الخارجي للحافة القارية يمتد إلى تلك المسافة”. وفي حالة كانت الحافة القارية للدولة الساحلية تمتد إلى أبعد من 200 ميل بحري، فتحدد المعاهدة مسافة الجرف القاري في هذه الحالة إلى 350 ميلاً. ويكون للدولة الساحلية حقوق سيادية على جرفها القاري حددتها المادة 77 من قانون البحار في ممارسة هذه الدول لسيادتها لأغراض الاستكشاف واستغلال الموارد الطبيعية غير الحية مثل النفط والغاز والمعادن وغيرها، ويكون هذا الحق خالصاً للدولة الساحلية.
اتفاقية لوزان 1923
عقب الحرب العالمية الأولى، قام الاستعمار الغربي في تقطيع أوصال الخلافة العثمانية، فكانت البداية غبر معاهدة سيفر 10 آب 1920 والتي نصّت على منح تراقيا والجزر التركية الواقعة في بحر إيجه لليونان، الاعتراف بكل من سوريا والعراق كمناطق خاضعة للانتداب، الاعتراف باستقلال شبه الجزيرة العربية، الاعتراف باستقلال أرمينيا واعتبار مضائق البوسفور والدردنيل مناطق مجردة من السلاح وتحت إدارة عصبة الأمم.
رفضت الحركة القومية التركية بزعامة مصطفى كمال أتاتورك المعاهدة، واعتبرت أنّ بنودها تمثل ظلماً وإجحافاً بالدولة التركية. وأصرّت على تسوية جديدة فوقّعت معاهدة لوزان في 24 تموز 1923، والتي بموجبها لم يعد هناك شيء اسمه الخلافة العثمانية، وبالمقابل حلّت مكانها الجمهورية التركية القومية العلمانية.
تضمنت المعاهدة 143 مادة موزعة على 17 وثيقة ما بين اتفاقية وميثاق وتصريح وملحق، وتناولت ترتيبات الصلح بين الأطراف الموقعة على المعاهدة، وإعادة تأسيس العلاقات الدبلوماسية بينها وفقاً للمبادئ العامة للقانون الدولي، ومما تضمنته:
– تنازلت فيها تركيا عن حقوقها في كل من السودان ومصر وتخلّت عن سيادتها على قبرص وليبيا ومصر والسودان والعراق وبلاد الشام.
– رسمت الحدود مع اليونان وبلغاريا وحافظت على ضم إسطنبول وتراقيا الغربية، وتنازلت تركيا عن أجزاء من تراقيا الشرقية وبعض جزر بحر إيجه لليونان.
– تخلّت تركياً عن كل الإدّعاءات فيما يختص بـجزر الدوديكانيز التي كانت إيطاليا مجبرة على إعادتها لتركيا حسب الفقرة 2 في معاهدة اوشي في 1912، وتُعرف أيضاً باسم معاهدة لوزان الأولى 1912.
– أعلنت رومانيا من جانب واحد فرض سيادتها على جزيرة القلعة العثمانية(أضا قلعة) في 1919، وقوّت هذا الادعاء في معاهدة تريانون في 1920، وكانت الجزيرة منسية بالكامل في أثناء محادثات السلام في مؤتمر برلين في 1878، مما سمح لها أن تبقى قانونياً أرضاً تركية في المِلكية الخاصة للسلطان العثماني حتى معاهدة لوزان في 1923 .
– واعتبرت مضيق البوسفور ممراً مائياً دولياً ولا يحق لتركيا تحصيل أية رسوم.
حقوق تاريخية مكتسبة
تصدّرت جزيرة ميس (كاستيلوريزو باليونانية) الخلاف التركي اليوناني في شرقي البحر المتوسط انطلاقاً من تحديد مفهوم الجرف القاري، فهي تبعد 2 كيلومتر فقط عن الحدود التركية قبالة منطقة كاش بولاية أنطاليا، و580 كيلومتراً عن اليونان، لكنها تتبع لليونان عملياً، بموجب الاتفاقيات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى. وتصرّ تركيا أنّ هذه الجزيرة لا يمكن أن يكون لديها جرف قاري كامل يتبع لليونان والتي تبعد عنها 580 كيلومتراً .
انطلاقاً مما ورد آنفاً ودون أدنى شك يتضح الحق التركي وبالقوانين والمعاهدات الدولية باستثمار مواردها الطبيعة ضمن حدود المنطقة الاقتصادية الخاصة، بل أكثر من ذلك في استعادة العديد من الجزر والمناطق الأوروبية التي سلختها عنها معاهدة لوزان 1923. وما الحملة الشرسة على تركيا في هذا المضمار إلا لمنعها من نمو مجالها الحيوي وحصولها على أحد أهم موارد الطاقة في العصر الحديث وبالتالي استقلاليتها في هذا المجال، واستعمال ماليتها العامة في الشؤون العسكرية والبحث العلمي وفي توفير البنية اللازمة لتشغيل محركات اقتصادها. فتركيا بما من تحمل من مقوّمات ثقافية وإرث تاريخي ومؤهلات علمية وموقع جيو استراتيجي، يُضاف إلى ذلك قاعدة اقتصادية متينة وبنية مجتمعية واعية، كل ذلك يجعلها قادرة على المزاحمة في النفوذ الإقليمي والعالمي وتصدّر المشهد السياسي. ومع أنّ الأجواء الميدانية من مناورات بحرية قتالية إلى انتشار القوة البحرية في المنطقة يوحي بدق طبول الحرب، والشواهد التاريخية كثيرة على اندلاع الحروب منذ قديم الزمان على الثروات والموارد الطبيعية بدءاً من المياه وصولاً إلى النفط والغاز، ولكننّي أعتقد أنّه ليس من مصلحة أي طرف الدخول في حرب لا تُحمد عقباها، وكلفتها أكبر من منافعها. ومع الوصول عند نقطة تماس الخطوط الحمراء سيلجأ الجميع إلى قنوات التفاوض والحلّ السلمي وبالتراضي، وستحصل تركيا على حقّها المنزوع منها تاريخياً.
أيمن عمر