“سخافيا”: رحلة “شيعي” إبن الشياح الى بلغاريا
“عن دين دولتنا العتيدة، أجمعنا على العودة إلى الوثنية. فتشنا في الغرفة /الدولة عن طوطم نعبده، أو صنم نبجله، فلم نجد سوى مرآة مستديرة تحتفظ فيها نرجس في حقيبتها. لن نعبد المرآة بل وجوهنا فيها، نحن آلهتنا”. هكذا يُلخص عبد الحليم حمود روايته الجديدة “سخافيا”.
لا يتوقف عبد الحليم حمود عن الإبداع والإنتاج، يفاجئنا دوريًا بإطلالاته المميزة بـ”نتعة ما”. كل من عرفه يعترف له بجرأته في اتخاذ موقف ورأي من أي حدث مهما كان مستفزًا بالنسبة للآخرين.
وهنا جاءت روايته “سخافيا” خليط من شخصية ذاك الكاتب والثائر، تشعر مع كلماته بذاك الإنسان “وكأن الريح تحته” يتقلّب على مواجع التقليد ولا يقفز ويتعلق بمواكب “التحديث العابر والسطحي”. رواية تجمع بين ذاك الفتى “الشيعي” التقليدي إبن الشياح الذي عاش مأساة الحرب الأهلية في ثمانينات القرن الماضي وما تلاها من تطورات، وذاك الشاب الذي رمته الأقدار رجلًا في بلغاريا بين يدي امرأة “خطيرة” وسط أحداث متداخلة وشبكة تعقيدات لا تنتهي.
الرواية تعكس بكل تأكيد شخصية حمود “القلقة”، وإن أنكر هو ذلك، وبالطبع هذا ليس عيبًا أو نقيصة بل هي واقع. شخصية تحمل في طياتها كلّ تعقيدات وتركيبات إنساننا اليوم وانتماءاته المتعدّدة. شخصية لا يمكن اختصارها وحصرها في بوثقة واحدة، فيمكن للمرء أن يؤمن بالروحانيات التقليدية المعروفة مثلًا وعلى خطٍ موازٍ أن يرفض بعضًا من ثوابتها، فما المانع؟ يمكننا أن نقدس مفاهيم الحرية ولكن لا بدّ من ضابط ما في مكانٍ ما يؤطر ويحدّد الخطوط الحمر الواجب عدم تخطيها.
في روايته هذه يرمي عبد الحليم حمود الكثير من الأسئلة والأفكار، وهي تنم عن ذكاءٍ واسع وثقافة عميقة في التصويب على قضايا متعدّدة، وهو الذاهب أكثر فأكثر في عالم الفلسفة والأسئلة الوجودية والثورة على تقاليد محيطه القريب والبعيد، ولكنّه ما زال يقف على أرض الضاحية ويحتفظ في جيبه بقرص صلاة من التربة الكربلائية وسبحة دعاء وخاتم عقيق، هذه الأشياء ذاكرته الأولى وقد درّب نفسه على احترام كلّ مرحلة وفكرة وتصالح دماغه معها. هنا هو شخصية كلٍّ منّا المتعدّدة.
هي ليست التجربة الأولى لحمود في عالم الرواية، وهو المجدّ في صنعة الكتابة كما هو لامع في المشاركة برأيه الفجّ في كلّ القضايا الشائكة والآنية، لا يترك مناسبة إلّا ويدلي برأيه، هو رسام الكاريكاتير والشاعر والناشط الثقافي والاجتماعي والحالم، هو الثائر بعقل وحكمة، وهو المجدّد من خلال التقاليد.
إنّما في دخوله محراب الرواية “يشطح” حمود في بعض الزوايا، وهذه لا بدّ من لفت انتباهه إليها قليلًا، ويمكن اختصارها بنقطتتين: ارتفاع منسوب “تكثيف” الأحداث بما لا يحتمله السياق، وانعكاس شخصية الكاتب على أبطال روايته بما يزيد عن الإشباع المقبول. هاتان النقطتان ربما تُخرج النص عن سكة الرواية وتدخله في عالم آخر.
ما الدّاعي لحضور كلّ هؤلاء الفلاسفة والكتّاب والكتب وعلماء النفس والحكماء في كل صفحة تقريبًا من الرواية؟ وما هي الحكمة من تكديسهم جميعًا في نصٍ واحد؟ لماذا لا تترك يا صديقي أبطال روايتك البسطاء هم يقرّرون ويتصرّفون ويتحدّثون لغة الشارع والمجتمع ببساطة؟ لماذا تذهب بعيدًا إلى حدود “فانتازيا” وعلى قاعدة “فليصعد الجمهور إلى سطح الكاتب بدلًا من نزوله إلى واقعهم؟.
“جمهورية سخافيا” تحمل في طيّاتها الكثير الكثير من قيم ومواصفات الرواية الجميلة والكتاب القيّم والثورة الممنهجة بواقعية، هي تصوب على سخافة الإعلام والدول ورواية الأحداث والتاريخ والجغرافيا وأنظمة الحكم والأحكام المطلقة، هي تصوّب على معنى تأسيس كيان وإطار يسمونه دولة أو وطن وتعمد الناس إلى تقديسه وتصنيمه.
سخافيا رحلة في دهاليز الطب والدين والتاريخ واللّغه وعلم النفس والأئمة والنذور والذاكره المعلّقه بين الأمسين، كذلك هي رحلة في سخافة وتفاهة الكثير من العناوين والشعارات. هي رواية غنية جدًا جدًا بالخيال الذي استطاع ربط كل هذه الذكريات والأحداث دون أن يجعلنا نملّ بل نتابعه بشغف لنتفاجأ بالنهاية الصادمة.
باختصار: رواية تُقرأ
“سخافيا” عن دار “رواة” تقع في 216 صفحة من القطع الوسط.