رياضة

الشرقي لـ”أحوال”: رفضتُ ضم “إيان راش”.. وكنتُ “أتجسّس” على اللاعبين

نلتُ شهادتي الأولى بعمر الـ 16 عامًا.. وأنا أصغر مدرّب في العالم

ممّا لا شكّ فيه أن “عدنان الشرقي”، المولود عام 1943، هو أحد أبرز المدرّبين الذين مرّوا على الملاعب اللبنانية عبر التاريخ عمومًا، وعلى “نادي الأنصار” خصوصًا، إذ ارتبط اسمه بشكل بارز عبر مسيرة “الأخضر”، لاعبًا ومديرًا فنيًا على مدى عقود من الزمن.

وقد حظي “أحوال” بفرصة لقاء الشرقي، الذي كشف عن أسرار وخبايا تُروى للمرّة الأولى في مسيرته التدريبية، أبرزها الأساليب الناجعة التي اتّبعها وأفضت إلى تحقيق نجاحات فريقه الذي دخل موسوعة “غينيس” وترك بصمة لا تُمحى من ذاكرة التاريخ.

يبدأ الشرقي حديثه لموقعنا بالقول: “نشأتُ في بيت يتنفّس كرة القدم، إذ أن إخوتي كانوا يمارسون اللعبة -إما لاعبين أو إداريين- ما عدا شقيقنا الأكبر محمد الذي لم ترق له هذه الرياضة؛ أما شقيقي خليل، فكان إداريًا في “نادي النهضة” العريق، وكنتُ أصحو صباحًا لأجد الكرات مبعثرة في منزلنا، كما كانت التلال المحيطة بمنطقة الطريق الجديدة هي الملاذ لـ”تنفيس” هذا العشق اللامتناهي”، مضيفًا: “وعندما وصلتُ إلى سنّ الخامسة عشر من عمري، صرتُ أحرص على اقتناء المجلات الكروية الفرنسية اليومية والشهرية، منها “ليكيب” و”فرانس فوتبول” و”ميروار دو فوتبول” و”ماغازين دو فوتبول”، كما كنتُ أهتم بقراءة الأمور الفنية على وجه التحديد، فكان القاموس هو الرفيق الدائم لترجمة المصطلحات التي قد لا أفهم معناها”.

المعايشات الخارجية

كان التركيز بالنسبة للفتى “عدنان الشرقي” ينصبّ على تقنيات التدريب والتكتيك والصحة الرياضية واللياقة النفسية التي كانت بمثابة “عملة نادرة”، بحسب قوله، ولتطوير نفسه بصورة عملية، كان يستفيد من حسوماتٍ للطلاب على تذاكر السفر، تصل إلى خمسين بالمئة، فكان يدخر “الخرجية” حتى ينجح في تحقيق مراده، فيطير إلى دول أوروبا بقصد “المعايشة” داخل أكبر الأندية هناك والتعلم والاكتساب، فيبيت ليلته بما يعادل “جنيهًا استرلينيًا” أو يزيد، عند سيدة عجوز أو في نزل صغير. أما حين يذهب لمشاهدة التمارين، فيشترط على المسؤولين بأن يطردوه من الملعب إن تنفّس ببنت شفة، قائلا “أنا هنا لأتابع بصمت واكتسب بصمت، لا أتكلم ولا أزعج أحدًا لأنني أحب كرة القدم وحلمي أن أصبح مدربًا”.

ومن أبرز المعايشات التي انخرط فيها الشرقي، كانت في نوادي “أرسنال” الإنكليزي و”برشلونة” الإسباني و”ميلان” الإيطالي و”أياكس أمستردام” الهولندي وسواها، فكان يطلب من أي شخص عربي مقيم في تلك الدول أن ينقل له كلامه “مكتوبًا” على قصاصة ورق إلى المسؤول، شارحًا شغفه بعالم التدريب.

أما أطول المعايشات في مسيرة الشرقي، فكانت في مصر عام 1976 تحت إشراف المدرب المجري الشهير “هيديكوتي”، الذي همس في وجهه بعد فترة قائلًا: “ألم تصب بالملل بعد؟”، علمًا أن الشرقي كان ينوي التخصص بـ”علم التشريح في الطب الرياضي”، وقد نال القبول للالتحاق بجامعة “الأهرام” عام 1965، إلا أن مرضًا معويًا أصابه بالمصران، اضطرّه للعودة إلى بيروت.

عام 1967 عاد إلى جمهورية مصر لاعبًا، إذ حمل شارة القيادة لفريق “الأولمبي” الإسكندري، وكان صاحب ضربة بداية افتتاح الموسم الكروي عامذاك في المباراة أمام “الزمالك”، حين دخل بسيارة اللواء “سليمان عزت” الذي عيّنه برتبة “ملازم أول” في البحرية المصرية، علمًا أنّه لا يجيد السباحة.

رحلة التدريب

المسيرة التدريبية للشرقي بدأت في سنّ مبكرة، وتحديدًا عام 1959، إذ كان له من العمر 16 عامًا حين أشرف على فريقَي “الأشبال” و”الناشئين” في الأنصار؛ وفي عام 1967، أصبح لاعبًا ومدربًا للنادي “الأخضر” حتى أنهى مسيرته التدريبية عام 2005، وكان خلالها يحرص على الإشتراك في دورات خارجية عديدة، أبرزها عام 1986 في بغداد حين نال شهادة أستاذ محاضر في علم التدريب عن قارة آسيا، تحت إشراف الفيفا.

الشهادة الأولى التي نالها عام 1959

وفي حديثه لـ”أحوال”، يشير الشرقي إلى أن علم التدريب الأساسي ثابت لا يتغير مع وجود عدّة مدارس كروية في الماضي، وهي اللاتينية المتمثّلة بالبرتغال وإسبانيا وإيطاليا، والمدرسة الأوروبية الوسطى المتمثّلة بتشيكوسلوفا ويوغوسلافيا والنمسا، والأوروبية الغربية التي تعتمد على القوة مثل إنكلترا وألمانيا، بالإضافة إلى مدرسة الفن والجمال في أميركا اللاتينية، حيث يقف الأمر هنا عند شخصية المدرّب وتقبّل اللاعبين له، إذ لا يمكن للمدرّب أن يضع لاعبيه ضمن “بوتقة” معيّنة بل توظيف مهارات وفنيات كل لاعب ضمن الإمكانيات التي سيقدمها لخدمة المجموعة.

وانطلاقًا من ذلك، كان الشرقي يدرس كل الفرق المنافسة قبل بدء الدوري بنحو شهر، ويكتب أسماء الفرق الباقية التي ينبغي الفوز عليها مهما كلّف الأمر، لعلمه بأن خصمه المنافس بقوة قادر أيضًا على الفوز على تلك الفرق، ولهذا يطلب من لاعبيه بذل الجهد في أرض الميدان ويشحنهم معنويًا وفلسفيًا، لذا كان التركيز أثناء المران على القوة والسرعة، لأن “ليس كل لاعب لبناني يمتلك الفنيات والمهارات العالية”، بحسب تعبيره.

من جهة أخرى، فمن أبرز الأمور اللوجستية التي وضعها الشرقي منذ انطلاق مسيرته التدريبية، كانت توحيد الزي التدريبي بثلاثة ألوان مختلفة ومنح كل لاعب حذاءين، واحد للتدريب وآخر للمباريات، كما يمنع على أي فرد بأن يأخذ الحذاء إلى منزله خوفًا من أن يعيره إلى شقيقه أو صديقه، فـ”بعلم الأحذية الرياضية، يجب على الحذاء أن ينتعل القدم وليس العكس”.

الأول من اليمين وقوفًا لاعبًا ومدربًا للأنصار عام 1969

نظام غذائي

إضافة إلى ذلك، وضع الشرقي نظامًا غذائيا في النادي، فكان “الأنصار” يستعين بسيدتين تطهوان الطعام بشكل يومي، ومن ثم تعاقد مع مطعم في الطريق الجديدة يقصده اللاعبون، حتى وصل به الأمر إلى إرسال وجبات إلى بيوت اللاعبين.
ويرى الشرقي أنه لضمان جودة العمل الجماعي وتحقيق النجاح، لا بد من إرساء قوانين وشروط صارمة يوقّع عليها اللاعب، خصوصًا تلك التي ترتبط بالتمارين التي تبدأ يوميًا عند الساعة الثالثة عصرًا، حيث ينبغي على اللاعب أن يحضر قبل ربع ساعة، وعند التأخير يتم خصم دولارًا واحدًا عن كل دقيقة.

وفي سياق متصل، ولضمان ديمومة ونجاح هذه المنظومة القانونية، كان الشرقي يطلب من كل فرد أن يتواجد في منزله قبل الساعة العاشرة ليلًا أيام الخميس والجمعة والسبت، وقبل الثانية عشرة في الأيام الباقية.

أسلوب التجسّس

وعلى الضفّة الموازية، كان الشرقي يتّبع أسلوبًا “بوليسيًا – تجسّسيًا” على لاعبيه، فيطلب من “نواطير” الأبنية أن يقدموا له تقريرًا خطيًا عن تحركات اللاعبين من دون أن يشعروا بذلك. ومع مرور الوقت، اتبع أسلوب الاتصال بلاعبيه على الهاتف الأرضي ليلًا، حيث يعتبر “المدرّب القدير” أن هناك أمران أساسيان يحطمان لاعب كرة القدم، وهما “قلّة النوم وشرب الخمر”.

وفي هذا الإطار، يروي لموقعنا حادثة قد يصدقها البعض وقد لا يصدقها البعض الآخر، فيقول: “أنا عدنان الشرقي لا أكذب، ومن أراد أن يصدقني فليسمع هذه الواقعة. عرض عليّ رئيس النادي “سليم دياب” في منتصف التسعينات أن يحضر لي نجم وهداف ليفربول “إيان راش” مقابل 100 ألف جنيه استرليني يدفعها من جيبه الخاص، بعد مغادرته لناديه فرفضت، وحين سألني عن السبب، أجبته: “هل تريدني أن أبقى أتبعه من حانة خمور إلى حانة أخرى”، موضحًا أن النجم المذكور كان يعاقر الخمرة بكثرة، مع الإشارة إلى أن هذه الأمور قد تُعتبر عادية في إنكلترا، أما في مجتمعنا فالأمر مختلف تمامًا”.

إلى جانب الرئيس التاريخي للأنصار سليم دياب

بين الفريق والمنتخب

وردًا على سؤال حول الاختلاف بين تدريب الفريق وتدريب المنتخب، يرى الشرقي أن الفارق كبير، فلاعبي الفريق هم تحت أنظار وسيطرة المدير الفني طوال الموسم، ويعرف عنهم كل “شاردة وواردة”، أما المنتخب فالمطلوب تجميع اللاعبين من عدّة نوادٍ، وإيجاد الإنسجام في أقل فترة زمنية ممكنة، وهذا ما يجعل المدرّب يعاني، خصوصًا أن النجومية الفردية لا تكفي في المنتخبات الوطنية، وعليه لا بد من مدرب متفرغ طوال العام حتى يبني ويؤسس بالشكل الصحيح.

وعن أهمية المعسكرات الخارجية في حياة لاعب كرة القدم، يعتبر الشرقي أنها أولًا تجمع اللاعبين في “بوتقة واحدة”، فتعزّز أواصر المحبة والتضامن بينهم، وثانيًا “تؤمّن من خلالها احتكاكًا عالي الجودة مع فرق تفوقنا من حيث المستوى والقوة والنتائج المسجلة في دوريات بلادها، أو على صعيد القارة الأوروبية، فالأنصار هو أول من “ابتدع” فكرة المعسكر الخارجي ولطالما كانت وجهته إلى رومانيا والعراق والأردن وسواها”.

من هنا، يقارن الشرقي بين اللاعب الأجنبي واللبناني، فيرى أن الأول يبقى طيلة الموسم بكامل لياقته لأنه حين يبتعد عن كرة القدم بسبب العطلة، يقوم بممارسة رياضات أخرى مثل ركوب الدراجات أو الجري أو السباحة، وهي من أفضل أنواع الرياضات إذ تجمع بين المتعة وتحريك كافة عضلات الجسم، بينما نجد أن اللاعب اللبناني إذا ما توقف مدة أسبوعين، يصبح قابلًا “للصدأ”، لأننا لا نعلم أساس بنيته والتغذية التي نشأ عليها منذ الصغر.

الجيل الذهبي

في سياق آخر، يعتبر الشرقي أن أفضل فريق مرّ بتاريخ “الأنصار” ويعتز بصنع البطولات معه، كان جيل التسعينيات الذي ضم عمر إدلبي وجمال طه وفادي علوش ومحمد مسلماني وعبد الفتاح شهاب وسواهم، من دون أن ينكر حق وقوة الأجيال السابقة، فيكفيه أنه صنع من فادي علوش هدافًا تاريخيًا للدوري المحلي، وهو الذي لم يكن قد مارس كرة القدم في ريعان شبابه.

الشرقي.. صراخ دائم وشعلة لا تهدأ في الملعب

في المقابل، يعترف الشرقي بأنه كان عصبيًا مع لاعبيه خلال مسيرته، لكنه لم يكن ديكتاتوريًا، رغم أنه في أغلب الأحيان كان يخرج عن طوره ويكيل الشتائم لهم، معترفًا بأن هذا الأمر بمثابة “خطأ فادح”، فيقول: “كون المسؤولية تقع على عاتقي، فأنا دومًا تحت ضغط كبير والكل يعلم بأن عبارات الإهانة لم تكن نابعة من قلبي بهدف تحقير أو تجريح اللاعب، بل كنتُ أقدّم له الإعتذار في غرفة تبديل الملابس وأقبّل رأسه مستسمحًا”، مضيفًا: “أما علاقتي باللاعبين فكانت علاقة الأب بولده، وهناك أمر سأكشف عنه للمرة الأولى وهو أنني اشتريتُ منزلَين من مالي الخاص للاعبين، وأثثت بيوت 5 آخرين”. وعند سؤاله عن أفضل الأجانب الذين مرّوا على الفريق، يجيب مسرعًا وبدون تردّد “الترينيدادي دايفيد ناكيد، والنيجيري موري إبراهيم”.

كرويف الملهم

عالميًا، يرى المدير الفني السابق للأنصار بأن الهولندي “يوهان كرويف” من أفضل المدربين، إذ طبّق فكر مدرسة “الكرة الشاملة” لاعبًا ومدربًا، مشيرًا إلى وجود “فيلسوفَين” في عالم التدريب، وهما الإيطالي “أريغو ساكي” والفرنسي “آرسين فينغر”، علمًا أن لكل عصر مدربين مبدعين، ففي زماننا هناك جوسيب غوارديولا (مانشستر سيتي) وتوماس توخيل (تشلسي) وهانز ديتر فليك (بايرن ميونيخ).

أما عن مباريات اليوم، فيعتبرها الشرقي “مملة مملة مملة”، بحسب تعبيره، لكثرة ما يمرر اللاعبون الكرة فيما بينهم، وخصوصًا بين منطقتي خط الوسط والدفاع، ما يفقد كرة القدم رونقها وجماليتها.

له وليس عليه

عام 2005، توقّفت مسيرة الشرقي التدريبية التي دامت مع الأنصار 38 عامًا، فكانت حافلة بالانتصارت والكؤوس والألقاب، كما لم تخلُ من بعض “الكبوات” التي لا بد منها في عالم “الساحرة المستديرة”.

خرج عدنان الشرقي وله في ذمّة النادي مبلغ 43 ألف دولار دفعها من جيبه الخاص، فهو لم يتقاضَ يومًا واحدًا أي راتب شهري؛ خرج الشرقي لأنه لم يتقبّل عقلية فلسفة “جيل حب الظهور” والفزلكة.

ختامًا ومهما قيل عن الشرقي، يبقى الكلام قليلًا وخجولًا في حقّ “أفضل مدرّب” لبنانيّ مرّ على الملاعب المحلية، وأفضل من أحدث ثورة فلسفية كروية في المفهوم الرياضي العام، بشهادة كل من عاصره أو حتى سمع عنه مستقبلًا.

سامر الحلبي

سامر الحلبي

صحافي لبناني يختص بالشأن الرياضي. عمل في العديد من الصحف والقنوات اللبنانية والعربية وفي موقع "الجزيرة الرياضية" في قطر، ومسؤولاً للقسم الرياضي في جريدتي "الصوت" و"الصباح" الكويتيتين، ومراسلاً لمجلة "دون بالون" الإسبانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى