مجتمع

المرأة في أدب كنفاني

شكّلت قضية التصنيف الأدبي (الأدب النسوي، الأدب النسائي) محورًا هامًا في عالمنا العربي خلال السنوات الأخيرة السابقة. مقالاتٌ كثيرة، كُتبت ودراسات نُشرت، عالجت زوايا عدة ونواحٍ هامة من الموضوع؛ لكن التساؤلات التي قد تفرض نفسها، تتمحور حول وجود المرأة ذاتها في نصوص الأدباء الرجال، فهل يمكن للمرأة فرض نفسها في أدب الرجل ليتشابك وجودها النضالي مع وجودها الأدبي؟

إذا تمعنّا بوجود المرأة خارج سياق العلاقة العاطفية، سنرى أنّها في بعض الأحيان أجبرت قارئها -مهما كان تصنيفه البيولوجي- على أن يحترمها ويتعاطف معها ويقدّر مكانتها. وقد حقّق الأديب الراحل، غسان كنفاني، في تظهير نضال المرأة عبر منحها أدوار البطولة بتعدّدية التصنيف، وخصوصًا في الحوار الروائي الذي خُلّد منه عدّة اقتباسات، من خلال حفر هذه النصوص الأدبية في ذاكرة القارئ وغير القارئ، فبقيت المرأة هي “المهيمنة” على مدى سنوات وأجيال، لتشكّل محور النضال والمقاومة والجبروت والتعالي على الأوجاع، مقارنةً بمعاناة وأوجاع الوطن. فمن “عائد إلى حيفا” إلى “أم سعد” وغيرهما، سطعت المرأة الفلسطينية في بنية السرد والقطع الحوارية ضمن المحتوى الروائي الذي تركه كنفاني.

مقتطف من الروايات:

“أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله”. لا شك أن هذه العبارة المقتبسة من رواية “عائد إلى حيفا” خالدة في ذاكرة الشعوب العربية الجماعية، وليس حصراً في ذاكرة القرّاء منهم؛ فحوار خالد وممجّد كهذا، جعل السؤال مرفقاً بالإجابة يوازي قيمة الرواية من ألفها إلى يائها.

لكن من هي “صفية”؟ ومن تمثّل في الواقع كـ”إمرأة”؟

تغيب “صفية”، ذات نيسان، عن بيتها في حيفا لمدة عشرين عامًا، لظروف خارجة عن إرادتها، تاركة رضيعها، لتعود وتراه جندي في جيش الاحتلال؛ يتوجّه زوجها مناجيًا نفسه حين تفاجأ بلقاء ابنهما “خلدون”، وقد أصبح نفسه “دوف” الجندي في جيش الاحتلال. وبعد نقاش مطوّل معه، لم يخلُ من القسوة والبغض تجاههم، يقول سعيد لها: “ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن؟ إنني أسأل فقط”.

تتحوّل “صفية” بهذا الحوار من “أم يائسة” تعيش آملةً لقاء ابنها، إلى مستمعة باكية تجفّف دموعها بمنديلها الأبيض، وهي التي استنزفت شبابها بالتفكير في لحظة لقائه.

إذا أجرينا مقاربة حيّة، سنرى أن “صفية” في موقع الأمهات المناضلات اللواتي صُعقن يوماً باكتشاف عمالة أبنائهن، فلذات أكبادهن. هي حالة عاشتها الكثير من الأمهات في زمن عشناه دون اقتراف أي ذنب. تترك “صفية” ابنها مجدداً وتعود من حيث أتت، مع كمّ المشاعر غير المترجمة وغير المعلنة؛ تترك “صفية” القارئ يتحسّر على حالها، ويعيش الغصّة عوضاً عنها، فذنبها الوحيد أنّها ظُلمت ذات يوم وهُجّرت من منزلها. بهذه الخطوة يُنقَل القارئ من “المجرّد” إلى “الحسّي”، فيتقمّص مكانة “صفية”، موقفها وميزان عاطفتها وصلابتها.

أما شخصية “أم سعد”، فكانت خالية كلياً من المشاعر المرهفة. تجلّت تلك الأيقونة التي روّج كنفاني من خلالها للقوّة والجبروت ومعاناة اللجوء، بوصفها والإشارة لها بأنّها المرأة التي تلد وفلسطين تأخذ، مع تبيان علاقتها بالمطر بشجرة “الدالية” وبابنها الفدائي التي لم تخف عليه يوماً. وقد برزت الحوارات في الرواية، وأبرزها تجلى في الجزء الثالث منها تحت عنوان “المطر والرجل والوحل”، وذلك بسؤاله لها: “هل وقعتِ يا أم سعد؟”، لتلتفت هي له وترد على السؤال بسؤال: “وقعت؟ أم سعد لا تقع!”.

النسوة الفلسطينيات.. تضحيات على مرّ العصور

ترى الروائية الفلسطينية، د. وداد طه، أن ما فعلته النساء الفلسطينيات في زمن الانتفاضات الشعبية ارتقى إلى فعل القداسة، فالتضحية ليست بالأمر الهيّن، فكيف إن كانت بوعي تام لمعناها؟ وتقول: “لقد ضحّت النسوة الفلسطينيات بأرواحهنّ، لستُ أوجز معنى النضال بذلك، ولا أوافق أو أرفض، ولكن أفهم عميقًا كيف تبكي أم أولادها وهي تصرخ فداء الوطن؛ وهذه الصورة تحديدًا هي الصورة السائدة والنمطية عن المرأة الفلسطينية، حتى يمكن القول إنّها غطّت على صور نضال أخرى قدّمتها نسوة فلسطينيات، لم يقدّمن الشهداء ولم يزغردن في المآتم أو يخبّئن مناضلًا، أعني الأديبات أو المثقفات أو اللآتي مارسن طقوسًا من الفداء، لم تُكتب بالدموع أو الدم”.

وتشير د. طه إلى أنه ليس بجديد القول إن “غسان كنفاني” التزم قضية فلسطين، وإن ما قدّمه من نتاج فكري كانت فلسطين محوره. وطالما أن وعي الفلسطيني بعامة، لم ينقصه الالتفات إلى ما قدّمته المرأة الفلسطينية من تضحيات، فليس بعيدًا من ذلك أن يقدّم كنفاني ضمن رومنسيته الواقعية صورة للمرأة الفلسطينية تحاكي واقعها، وهو يعي أن في انتقاء تلك الشخصيات ترسيخًا لفكرة المقاومة المسلّحة، والنضال بكل شيء، وإن تطلّب قرابين الروح.

أما عن “صفية”، فقد كانت “البطلة” التي بتصديقها وجود ابنها -رغم أنّها تركته من عشرين عامًا- هي كل “أم” في أي مكان، لكنّها “فلسطينية” فقط في تعلّقها بالأمل رغم كونه سحيقًا ومستحيل التصديق وهي تواجه “ميريام” اليهودية، لذلك فطيبتها وبراءتها تقابل خبث تلك ودهاءها.

وما اعتراف “صفية” بالضعف إلا تأكيد على هذه الفكرة؛ فحين اعترفت بأنّهم ضعفاء، بانت قسوة الآخر الذي أعطى لنفسه الحق بسحق الضعيف. إذًا، هي مرآة تعكس صورة الآخر فيظهر مغايرًا ومتوحشًا وتاليًا صورتها البريئة تعطي الفلسطيني تمايزًا إنسانيًا، إذ هو رغم ألمه ووجعه وفقره يظلّ طيبًا، في مقابل الإسرائيلي الذي يفيض بالحقد رغم قوّته.

وهكذا، كان كنفاني يرى المرأة الفلسطينية بريئة، شجاعة، قوية، صادقة وواقعية، ترسم بدموعها خط المستقبل ولو أنها كانت تتصرّف بتلقائية ومن دون حزبية أو انتماء سياسي؛ وذلك تأكيد من كنفاني على بساطة وعفوية فكرة المقاومة والنضال، وعلى أحقية الضعيف تأكيد حقه فيما يملك.

في خلاصةٍ لما طُرح، لم يكن الأدب الذي تناول غربة الفلسطينيات بما فيها من المشقّات والتداعيات، إلّا نقلاً حياً وإسقاطاً للواقع، فقد أدّت المرأة الفلسطينية دورها بكل إنسانية، رغم كل ما تعرّضت له من ظلم وإبعاد قهري عن بيتها ومأواها، فكانت على قدر الطرح في النصوص الأدبية والقصصية، حيث أبدع الراحل غسان كنفاني في تظهيرها للمجتمعات العربية تاركاً إرثاً أدبياً لمكانتها خاصةً، ولغربة الفلسطيني عن وطنه عامة.

فاطمة جوني

فاطمة جوني

صحافية لبنانية، مُعلقة صوتية، مهتمة بالشؤون الثقافية، وطالبة ماجستير قسم الصحافة الاقتصادية والتنموية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى