منوعات

الثوار يردّون على الراعي: بكركي جزء من “كلّن يعني كلّن”

مئة عام مرت على تأسيس دولة لبنان الكبير، هذا البلد الذي يبدو في حالة شيخوخة وعجز اليوم، متخبطاً بأزماته وانهياراته، صاغت بكركي روحية كيانه عام 1920. وها هو الصرح البطريركي، يعود بعد قرن من الزمن، ليطرح حياداً “يحافظ على الكيان”.

في المقابل، قلبت ثورة 17 تشرين موازين القوى. وإذا كان انقسام الشارع عام 2005 ذا طابع طائفي، استمد انقسامه من مراجع دينية وزعامات طائفية، فإن انتفاضة تشرين لم يكن لها قائد أو زعيم، ولا مرجع ديني.

هذه المعادلة الجديدة التي قلّما شهدها لبنان، كوّنت أرضية جدية لنظام لبناني جديد، جوهره المواطنة، لا “حقوق الطوائف” التي لطالما انبثقت منها روحية النظام الحالي.

فالثورة طالبت بإسقاط النظام، وثارت على “كلن يعني كلن”. وكان تدخل السلطات الدينية بالحكم وكذلك –خطوطها الحمر- جزءاً من الـ”كلن”. فبرأي كثيرين، لطالما كانت المرجعيات الدينية ركناً من أركان النظام.

ولعل من المستحيلات أن تمر علمنة بلاد الأرز من بكركي؛ أو يأخذ أي نظام بعيد عن حقوق الطوائف، شرعيته من مرجعية دينية.

والثورة فضّلت المواطنة على حقوق الطوائف، محمِّلة النظام الطائفي أوزار الفساد والمحسوبيات وغياب الكفاءة.

لكن، هل تُغرِق مبادرة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي مبادئ 17 تشرين، معيدة إنتاج النظام اللبناني بصيغته الحالية؟

وإذا استطاعت مبادرة بكركي توليد انقسام -محدود- بين الثوار حول طرحها، لكن لا يمكن إغفال توقيت هذا الطرح لناحية تخبط النظام اللبناني، وبحث المنتفضين عن بديل له، وبحث السلطة له عن مخرج!

لعقد اجتماعي جديد

يرى الناشط في مجموعة “لحقي” ماهر أبو شقرا، أنّ الثورة مراحل عدة، وهي بالتالي لم تنكفئ، فهي نبض شعبي شامل لكل المتضررين من الوضع القائم، وطالما أن النظام بصيغته ومفاعيله الحالية قائم، فإنّ الثورة ستظل قائمة.

ولا خوف على الثورة برأيه، فنبضها موجود، ومجموعات الثورة تعمل على تأطيره وتحريكه. وعن مبادرة البطريرك الراعي، فيضعها في خانة المبادرات السياسية التي تسعى لتحقيق مكاسب سياسية في ظل الأزمات.

فالقوى السياسية الحاكمة في مواقع قوة، ولكنها ليست “الناس”. في المقابل، أرست 17 تشرين معادلة جديدة عبر انفصال الناس عن هذه القوى.

والقوى الحاكمة تسعى لإعادة تفعيل النظام آخذة بعين الإعتبار التسويات والمتغيرات الإقليمية. ونظامنا طائفي، جوهره استقواء الطوائف بالأطراف الخارجية لتعزيز حضورها.

والمشكلة الأساسية تكمن بالعقد الإجتماعي الذي بني على أساسه لبنان، ولا يرى أبو شقرا حلاً للخروج من الأزمة، إلا بتأسيس عقد علماني، لا مركزي، يرسي العدالة الإجتماعية والمواطنة، عبر العلاقة المباشرة بين الناس والدولة، وليس عبر وسيط طائفي.

ومشهد بكركي يذكّرنا بالصورة المعتادة لرجال الدين، أما فكرة إبقاء اللبنانيين رعايا وقطعان طائفية، فمرفوضة.

ويميّز أبو شقرا بين الثورة التي ليست مرجعية، وبين القوى الفاعلة فيها، والتي قد تملك عدة توجهات. وهو يدرك أنّ اللبنانيين يتوقون للخلاص بسبب تعمق الأزمة. لكن البديل من داخل النظام، قد يجرنا لسيناريو قاتم جداً، سواء اقتتال داخلي، أو تدخلات خارجية…

وهناك من حمّلوا الثورة اليوم، التحاقهم بنداء الراعي، بسبب غياب حل منبثق منها. بدوره، يطرح أبو شقرا الحل من وجهة نظر “لحقي”، فالصيغة اللبنانية الحالية أفلست. والحل يبدأ بعقد اجتماعي جديد.

وهي رؤية تقوم على 3 مستويات لانتشال لبنان من الأزمة: الصمود عبر تفعيل مقوماته من خلال شبكات أمان اجتماعي واقتصادي تضامني بديل، يمنع الزبائنية الحزبية.

وانتظام الناس في مجالس ولجان محلية، وصولاً لحكومة انتقالية تستمد شرعيتها منهم، وتستقوي بهم لتنفيذ سياساتها.

بكركي جزء من “كلن يعني كلن”!

في حديث لـ”أحوال ميديا”، يشدد الناشط في “المرصد الشعبي لمحاربة الفساد” هادي منلا، على أننا علمانيون نؤمن بفصل الدين عن الدولة، وندعو المؤسسات الدينية للإنكباب على شؤون رعيتها دونما أي تدخل بالسياسة، مستشهداً بنماذج فصل فيها الدين عن الدولة، وشكّلت نقاط تحول جذرية نحو التقدم في مسار دولاً عدة.

وعن الحياد، يؤكد أننا مع دولة قوية وحرة تبدّي مصالح شعبها على مصلحة أي دولة أو محور. ولكن الحياد إذا لم يكن مضمونه واضحاً، قد يبعدنا عن القضايا الإنسانية.

في المقابل، يرى منلا أن هذا الحياد غير قابل للتطبيق في ظل بلد للطوئف، كل طائفة فيه مرتبطة بجهة خارجية، بما فيها بكركي التي تطرح الحياد.

وقبل أن نفكر بالحياد وجدواه، يجب علينا تأسيس نظام جديد مختلف كلياً عن النظام الحالي، ولتفسح الطوائف المجال لأهل السياسة بإدارة الشأن السياسي، وفق نظام علماني يحوّل “الشعوب” اللبنانية، لشعب واحد وطني ذو هوية لبنانية.

من جهة ثانية، يعلّق منلا على منطق التدويل، معتبراً أن لبنان مدوّل أصلاً. ويسأل كيف نحل التدخل الخارجي بالتدويل؟ وهو تدخل خارجي أيضاً! وبرأيه، فإنّ الراعي يطرح الشيء ونقيضه.

إلى ذلك، يشدد منلا على أننا ضدهم “كلن يعني كلن”. والـ”كلن” هذه، تحوي المنظومات: السياسية، الطائفية، الإقتصادية، المالية والقضائية التي تحكمت بالبلد منذ 30 عاماً وحتى اليوم.

ويسأل، فكيف إذا كنا نتكلم عن بكركي التي كان لها دور تاريخي في إنشاء هذا الكيان، ولطالما لعبت دوراً في الحياة السياسية، ووضعت فيتوات طائفية لمنع إسقاط رؤساء جمهوريات، وخطوطاً حمراً على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وغيره؟

ونحن أمام صرح بطريركي يتدخل بالسياسة بشكل فج وهو من منظومة “كلن يعني كلن” التي شاركت بأزماتنا وتفتيتنا وتقسيمنا.

ولا يرى منلا انقساماً للثورة بسبب طرح البطريرك أو بسبب سلاح حزب الله. فمبادئ 17 تشرين معروفة، وهي أسقطت المحرمات على اختلافها، وأصبحت كل الملفات قابلة للطرح.

لكن الفرق يكمن بالمقاربة، فتدويل الأزمة يكرّس مصالح دول خارجية. أما الثورة فكانت واضحة بحصرية هذا السلاح بيد الدولة المنوطة بالدفاع عن الشعب، لضمان تحقيق توازن الرعب مع “إسرائيل”.

النظام يثور على نفسه؟

“إرهابي حزب الله إرهابي”، كانت الجملة الأكثر وقعاً في هتاف الجماهير التي حجّت إلى الصرح البطريركي اليوم، وهي جملة قد تساهم في عودة البعض لولاءاتهم الدينية، على حساب الولاء الوطني.

ولبنان يدخل اليوم مرحلة تأسيسية جديدة، وثواره نادوا بـ”إسقاط النظام”. وكذلك جمهور بكركي اليوم! لكن في خطابه، قال الراعي أنه إذا ذهب لبنان إلى محور إقليمي “انتكست الصيغة”، ودعا لمؤتمر دولي تعقده الأمم المتحدة “لتثبيت الكيان اللبناني المعرّض جدياً للخطر”. إذن، تسعى بكركي لـ”تثبيت” لبنان الكيان وليس “تغيير” نظامه؛ ما يعني الإبقاء على الروحية الطائفية للنظام.

ولعل من حملوا الصليب اليوم، ومن عانقت مساجدهم كنائسهم في لافتاتهم، دليل على أي لبنان يحاول الراعي إعادة إنتاجه. فهو “العيش المشترك” للطوائف. وليس “الانتماء بالمواطنة”، التي لم يعرفها هذا النظام قط.

كسرت انتفاضة 17 تشرين كل الخطوط الحمر بما فيها خطوط المؤسسات الدينية. ولعل الشارع الذي صعد إلى بكركي اليوم، كان يعلم أنه لن يتعرّض للضرب من قبل القوى الأمنية، ولن يسجن بتهمة إرهابية.

أما الشارع الذي رفض الصعود، فيعتبر أن بكركي مرجعية محمية من النظام وجزء منه. ما يثير تساؤلات حول إمكانية المواطنين أن يثوروا على النظام، دون حماية منه. وكذلك حول إمكانية قوى النظام أن تثور على نفسها!

فتات عياد

 

 

فتات عياد

صحافية وكاتبة محتوى، تحمل إجازة في الصحافة من كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى