منوعات

لماذا يشتدّ نفوذ إيران في لبنان وتغيب ثقافتها؟

ما يزال السّجال دائراً في لبنان حول التّكريم الذي محضه حزب الله ومحور المقاومة للّواء قاسم سليماني القائد السّابق لفيلق القدس، والذي اغتالته القوات الأميركية في العاصمة العراقية بغداد، حيث كان داخلاً إليها من مطارها الدّولي.

السّجال يُحقق اشتباكاً على محاور مختلفة إلا أنّ نقطة ارتكازه هي دور سليمانيّ الميدانيّ في منطقة الشرق الأوسط، وفي تلاحم جبهات المقاومة في مواجهة محور الاعتدال العربيّ. وقد تمّ تبرئة الأطراف المقاتلة في سوريا من أيّ مسؤوليّة في مقابل التركيز على مسؤوليّة سليماني ومعسكره عن كلّ ما جرى.

كان المُحزن في السّجال أنّه ذو مستوى ثقافيّ، ومقولات أطرافه يعتورها التناقض، وقد أوغلوا في متاهة الإنكار والتسفيه، وشطح الجمهور يمنة ويسرى، في وقت بقي السؤال الرئيس حول المفارقة المتمثّلة في فاعليّة الحضور السياسيّ الإيراني في لبنان في مقابل ضعف الحضور الثقافيّ… فما أسباب ذلك؟

بين العرب وإيران صراعٌ وحساسيات

يُشير أكاديميّ لبناني مُقيم في العاصمة الإيرانية طهران لـ”أحوال” (فضّل عدم ذكر اسمه) إلى “ازدحام التاريخ الحديث للعلاقات الإيرانية – العربية بكثير من الحساسيات والصراعات”، وهو يرى أنّ “تلك الصراعات بلغت ذروتها في الحرب العراقية – الإيرانية التي بعثت موروثات وتقاليد وحقبة شاهنشاهية ركّزت على التربية القوميّة والتفوّق العرقيّ، ما جدّد قواعد الاشتباك بين الثقافة الفارسيّة والثقافة العربيّة بدل التأسيس لقواعد التلاقي والحوار والنّهضة التي طرحتها الثورة الإسلامية بعد انتصارها”.

الدبلوماسية الإيرانيّة غلّبت السياسة

في الوقت عينه، يتحدّث الأكاديمي عن “تيّار وطنيّ إيراني قويّ وناشط في الفترة الأخيرة يدعو إلى الاتجاه شرقاً ناحية الأراضي الإيرانيّة تاريخياً حيث يتشارك الإيرانيون وأقوامُ تلك الدول اللغة والتقاليد والرموز الثقافية حتى اليوم”، في وقت يُشدّد على وجود “محاور اتفاق كثيرة بين الجانب الإيراني والعرب ومجالات واسعة للتعاون”.

إلى ذلك، يسجّل الأكاديميّ اهتماماً إيرانياً بتعزيز الدبلوماسيّة ومحتواها الثقافي، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات الاقتصاديّة مع العالم العربيّ؛ ويتوقّف عند “برنامج مُثير للاهتمام، يُبثّ عبر القناة الأولى من التلفزيون الرسميّ الإيرانيّ، عنوانه “ثريا”، ذات مضمون نقديّ للدبلوماسيّة الإيرانية التي جعلت مهمّتها سياسيّة دون كبير اعتبار للمجالات الحيويّة الأخرى، لا سيما الثقافة والصناعة … التي يُفترض بها أن تكون الحاضنة لأي مشروع سياسي رياديّ ضمن المدى الحيويّ”.

 عتريسي: لا ثقافة إيرانية في لبنان

يؤيّد الدكتور طلال عتريسي (أستاذ علم الاجتماع وباحث في الشؤون الإيرانيّة) في حديث لـ “أحوال” ما ذهب إليه الأكاديميّ اللبنانيّ المقيم في طهران من وجود “تيّار قويّ في إيران يدعو لإيلاء الاهتمام الكبير لبلدان آسيا وإدارة الظهر لغرب آسيا”، وليؤكّد تالياً أنّه “لا وجود للثقافة الإيرانيّة في لبنان، إلا إذا أخذنا البُعد الدينيّ العقائديّ كمكوّن من مكوّنات الثقافة؛ فهذا له تأثير في بيئات شيعيّة محدّدة لكن ليس في المجتمع اللبناني عامّة”.

ويُضيف: “إذا كانت الثقافة هي الفنون والآداب والسينما والمسرح والطعام واللباس والعادات والتقاليد، فبهذا المعنى ليس هناك ثقافة إيرانية في لبنان، أو على الأقلّ هي ضعيفة جدّاً، واللبنانيّون – والشيعة تحديداً – لم يتكيّفوا كثيراً مع هذه المكوّنات للثقافة كما هي موجودة في إيران في موضوع الغذاء والفنون والموسيقى والسينما…على الرّغم من أنها ثقافة عريقة وممتدّة عبر التاريخ”.

  الحضور السياسي الإيراني يتعزّز بحزب الله

وفي التمييز بين النفوذ الثقافيّ والنفوذ السياسيّ، لا يتردّد عتريسي في اعتبار “النفوذ السياسي أكثر حضوراً بسبب طبيعة العلاقة الوثيقة بين حزب الله كحركة مقاومة وكتنظيم سياسي قويّ بإيران، لا سيّما أنّه تمكّن من تحقيق إنجازات كبيرة في لبنان، وباتت له سمعة عربيّة وإقليميّة، وهو يعلن أنه متحالف مع إيران بشكل قوي، وإيران لديها هذا الحضور بفضل هذا الحليف القوي”.

ويُشير عتريسي إلى غلبة السياسة على العلاقات اللبنانيّة – الإيرانيّة ما يؤدّي إلى إهمال اللبنانيين “للحياة العلميّة في إيران، على الرّغم من أنّ العلم جزء مهمّ من المكوّنات الثقافية في إيران”.

الثقافة الإيرانية مظلومة لأسباب سياسيّة

ويستشهد عتريسي بعهد الرئيس المصري السابق محمد مرسي ليؤكّد أنّ “التداخل بين السياسيّ والثقافيّ هو الذي منع تنفيذ الاتفاقيّات التي قضت بالتبادل الثقافي والسياحي بين مصر وإيران”.

ويُضيف: “السينما الإيرانية معروفة في أوروبا – وتنال الجوائز – أكثر ممّا هي معروفة في لبنان، والمخرجون حاضرون ومعروفون في أوروبا، لكن في لبنان السينما لا تنفصل عن السياسة وأهواء الطوائف”.

الأنموذج الثقافي الغربي ما يزال مهيمناً

ولا ينسى عتريسي التأكيد أن “الغرب ما زال مهيمناً في المجال الثقافي، ويطغى على الثقافات الإقليمية التركية والفارسيّة والعربيّة وحتى الأوروبية؛ وإيران ممنوع عليها الحضور في مصر والمغرب في المجالات كافّة”

ويتوقّف عند الطعام كأحدّ مكوّنات الثقافة الجذّابة فيأسف أنّ “مطاعم افتتحت في لبنان لكنها لم تستطع الاستمرار”.

المشروع الثقافي الإيراني يحتاج إلى الدافعيّة

كذلك يُعيد عتريسي ضعف الحضور الثقافي الإيراني في لبنان والمنطقة إلى عوامل ذاتيّة في المشروع الإيراني “تتمثّل على الأغلب في عدم الاهتمام وعدم النّشاط في هذا السّياق بسبب طبيعة المواجهات التي تخوضها إيران في المنطقة والأولويّات السياسيّة في مقابل الأولويات الثقافيّة”.

صاغية: نفوذ إيران في لبنان أعرج

من الجهة الأخرى، ثمة مَن يرى في الحضور الإيرانيّ في لبنان حالة سلبيّة، حيث يقول حازم صاغية (كاتب ومثقف لبناني) لـ”أحوال” إنّ “نفوذ إيران وحزب الله في لبنان هو نفوذ أعرج، وهذه إحدى مفارقاته الكبيرة، لأنه لا يُقيم وزناً لأيّ من أوجه الثقافة”، بعد أن يعرّف الثقافة بـ “الأدب والشّعر والنّحت والموسيقى”. ثم يستدرك بتعريف آخر للثقافة ليجد أن الدور الإيراني “بوصف ما تتناوله جماعة أهليّة من طقوس تقاليد وعادات وأدبيّات ثقافة، فإنّه يمكن القول إنّ نفوذ إيران وحزب الله قد هيمن على ثقافةٍ هي ثقافة الطائفة الشيعيّة”.

الوحدة المذهبيّة لا تلغي الفروقات ولا تمنح الجاذبية

لكن صاغية يستدرك ليعتبر “الحصّة الإيرانية في ثقافة الشيعة اللبنانيين “صغرى” يسعى الإيرانيّون إلى توسيعها، ويرى أن “الوحدة المذهبيّة في الحالات جميعاً هي وحدة مذهبيّة، ولا تلغي الافتراقات الأساسية بين الشيعة اللبنانيين والشيعة الإيرانيين، مثلما هناك افتراقات عديدة ثقافيّة واجتماعيّة بين المسيحيين اللبنانيين والمسيحيين الأوروبيّين والسُّنّة اللبنانيين عن السُّنّة العرب”.

ويُضيف: “لا تُحدَّد جماعةٌ من الجماعات بهويّتها المذهبيّة، وإن كانت تلعب في حدودٍ ما دوراً في تعريفها ووصف حركتها، وهذا يسري على الجميع”، معتبراً أن “السرديّة الإيرانيّة النضاليّة تحاول أن تقفز لفظيّاً فوق هذه الفوارق لكنها تحاول أن تستخدم شيعة البلدان العربيّة لصالح مطامح إيران لا الشيعة”.

ويعوّل صاغية على حمل الهيمنة الإيرانية المؤّقتة أسباب انهيارها، ويقول: “دخلت بعض العادات والطقوس المذهبيّة، وهذا هامشيّ وثانويّ، أي إنها تنهار مع أيّ انهيار سياسيّ فليست قويّة وليست حذّابة”.

الحضور الإيراني في لبنان كثير التعقيد

ويعلّل صاغية ضآلة الحضور الثقافي الإيراني في لبنان بـ”القيد الإسلاميّ على النظام الإيراني الذي يحدّ من انتقال الحضارة الإيرانيّة العظيمة، على عكس ما يرى الإيرانيّون”، متّهماً النظام “بتنفيذ طموحات توسّعيّة لإيران دون أن يكون فارسيّاً، لأنّه ذو مرجعيّة مركّبة من طموحات فارسيّة، وإسلاميّة، وشيعيّة، وأطوار اشتغالها تناوبيّة”.

ويُفكّك صاغية العلاقة بين لبنان بمكوّنه الشيعيّ من ناحية، والجمهورية الإسلامية في إيران من ناحية أخرى، فيجد أن ما يربط هذا المكوّن “بإيران مذهباً وليس فارسيّاً”، ما يمنح الأنموذج الغربي أفضليّة في الحقل الثقافي.

ويستشرف بالقول: “أعتقد أننا ما إن نخرج من الشطر الدينيّ حتى نواجه  – نحن وإيران والعالم كلّه – مسألة المثال الغربيّ، وهو يجذب الناس حتى في إيران نفسها. وفي ظلّ هذا يصير الرّهان على النموذج الإيراني فاشلاً فالشباب الإيرانيّ أكثر أمركة منّا”.

ثمة شهاداتٌ تنتصر للطرح الإيرانيّ وأخرى تُناهضه، وتكون الأمور سجالاً بسبب الأهواء والسياسة. لكن الذي لا شكّ فيه أن الثقافة هي ما ينفع الناس، وأنّها تبقى وتتفاعل وتُنتج. وقد كانت بلاد الآريين موطن زرادشت، وهو صاحب القول الخالد: “الفكر الصّالح والقول الصّالح والعمل الصّالح”؛ وفي زمن المسلمين هي بلاد العلم والتنظيم والفنّ، ومن كُبرى حواضرهم.

طارق قبلان

طارق قبلان

مجازٌ في الصحافة واللغة العربيّة. كاتب في السياسة والثقافة، وباحث في اللهجات والجماعات الإسلامية والحوار الديني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى