“الاقتصاد التضامني”.. هل يكون حلًا للخروج من الأزمة الراهنة؟
سنوات عديدة مرّت على اتّباع المنظومة الحاكمة في لبنان، لسياسات اقتصاديّة أسقطت البلد وشعبه عن حافة الهاوية، وبات حديث الانهيار الاقتصادي حاضرًا كيفما أدار اللبناني وجهه لتأمين حاجيّاته المعيشيّة، تحت رحمة نظام دمّر القطاع الإنتاجي بحكوماته المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الأهليّة.
وبعد انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانيّة مقابل العملات الأجنبيّة، خسرت السلطة اللبنانيّة حلولها “التسكيجيّة” كافّة، فضحّت بأموال صغار المودعين في المصارف بهدف تأمين حاجاتها من الاستيراد، بعد أن هرّب كبار المودعين أموالهم إلى خارج البلاد، الأمر الذي فاقم انهيار قيمة الليرة، وعزّز ارتفاع نسبة البطالة بسبب إقفال الكثير من المشاريع التجاريّة. فما البديل عن هذا النموذج الاقتصادي القائم على أعمدة هشّة، تنفذ في النهاية؟
المختص في مجال البناء التنظيمي والهيكلة والأبحاث في “دليل تضامن” ماهر أبوشقرا، يؤكد في حديثه لـ”أحوال” أن المشكلة تبدأ من السياسات الاقتصادية والمالية للحكومات التي تعاقبت على السلطة بعد الحرب الأهليّة، والنموذج الاقتصادي الذي بنته، موضحًا: “ولأن الانتاج يحرّر الناس ويشكّل نقيضًا للزبائنية التي ترتكز عليها العقيدة الاقتصادية للمنظومة الحاكمة، قامت الأخيرة بتدمير اقتصادي ممنهج طال كل ما عجزت الحرب عن تدميره، من معامل ومصانع للأحذية والألبسة والجلود والمنتجات الغذائيّة وغيرها.. واعتمدت على الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على مصادر مهدّدة بالنفاذ”.
من هنا، يرى أبوشقرا أنّ استمرار النموذج الاقتصادي الذي بنته المنظومة الحاكمة في لبنان، كان يتطلّب شهية مفتوحة لاستقدام الدولارات لتلبية حاجات المجتمع للاستيراد، بالإضافة إلى تثبيت سعر الدولار، مضيفًا: “ولكن حين ظهر العجز في ميزان المدفوعات، بعد أن اهتزّت مصادر تأمين الدولارات التي كانت تعتمد على استجابة الناس لعروضات المصارف والتحويلات الخارجيّة والسياحة، سارعت المنظومة الحاكمة نفسها وحلفاءها من كبار المودعين إلى تهريب دولاراتهم للخارج، الأمر الذي فاقم الأزمة وأدّى إلى انهيار النموذج الاقتصادي بشكل متسارع، مترافق مع فقدان العملة لقيمتها تدريجيًّا”.
الحلول الممكنة للخروج من الأزمة
وفي الحديث عن الحلول الممكنة للخروج من الأزمة، يقول الباحث والعضو في “دليل تضامن” لـ”أحوال” إنَّ الحلول تكمن في استعادة الأموال المهرّبة، وتعديل النظام الضريبي وجعله أكثر تصاعدية، مع فرض ضريبة تصاعدية لمرة واحدة على الثروات الكبيرة، وتأمين استيراد المواد الأساسيّة كي يستفيد الناس مباشرة بدلاً من كبار المحتكرين الذين أصبحوا المستفيد الأساسي من دعم سلع معيّنة، كالنفط والقمح وغيرها، بالإضافة إلى استعادة الأرباح الكبيرة التي تحققت من الهندسات الماليّة، الأمر الذي يؤدّي إلى تحمّل كبار المودعين وزر الأزمة”. لكنّه -أبو شقرا- يعود للتأكيد على ضرورة انهيار هذا النموذج الاقتصادي الذي فقد الناس ثقتهم به وبالقطاع المصرفي، وتحوّله بالمقابل إلى نموذج إقتصادي منتج وديمقراطي.
وبناء على ما تقدّم ذكره، يقترح أبو شقرا نموذج “الاقتصاد التضامني” أو ما يُعرف في بعض الدول بـ”الاقتصاد الاجتماعي”، وهو اقتصاد قائم بشكل أساسي على مؤسّسات ومشاريع اقتصاديّة ديمقراطية ذات أهداف اجتماعيّة، ومن أبرز أشكالها التعاونيات؛ فالتعاونيات مؤسّسات ديمقراطيّة تقوم بالإنتاج وتسهم في تنظيم الاقتصاد وفي تحقيق العدالة الاجتماعية، وفقًا لـ”أبوشقرا” الذي أكد أن “ذلك يشكّل خطوة مهمّة نحو إعادة بناء الاقتصاد، على أسس العدالة الاجتماعية والديمقراطية الاقتصادية”، لافتًا إلى أن هناك عدّة أشكال من التعاونيّات، إذ قد تكون حرفيّة، أو تصريف إنتاج، أو عمالية، أو ماليّة (أي مصارف تعاونية مملوكة من المودعين)، أي أنّهم، بالإضافة إلى الاستفادة من خدمات الادّخار والتسليف بفوائد منخفضة، يملكون حق المشاركة في القرارات المتعلّقة بكيفيّة توظيف الأموال، الأمر الذي يجعلها بديلًا متينًا عن المصارف ويستحق إعطائه الثقة.
آليّات التطبيق
أمّا عن آليّات التطبيق، فيقول أبوشقرا لموقعنا “إنّ تشجيع مبادرات المشاريع التعاونيّة وتنظيمها، يرفع من مستوى شعبيّتها، وبالتالي فهو يساهم في تعميم هذه التجارب على مستوى الوطن مع مرور الوقت وتراكم التجربة”، مشددًا بالمقابل على عدم جدوى انتظار أي إجراءات عمليّة صادرة عن الحكومة، إذ أنّ تلك الأخيرة تسعى بشكل مستمرّ للبحث عن مصالحها الخاصّة وبعيدة الأمد، بهدف الحفاظ على هيمنتها ونفوذها واستمراريّتها، في حين أنّ نموذج “الاقتصاد التضامني”، يتناقض بشكل بنيوي ومباشر مع مصالح هذه المنظومة الحاكمة، كونه يعمل على تغيير النموذج الاقتصادي للإنتاج، وهو بالتالي يلغي قدرتها على ابتزاز الناس بالوظائف، كما يهدّد تبعيّتهم لها واستمراريّة نفوذها وهيمنتها.
هذا وقد أثار أبوشقرا في سياق حديثه إشكاليّة “عدم وجود تشريعات كافية تسهم في تكريس “الاقتصاد التضامني” كقطاع قائم بذاته”، مشيرًا إلى أنه رغم وجود المديرية العامة للتعاونيّات في وزارة الزراعة، إلا أن هناك غياب لقانون متكامل ينظّم الاقتصاد التضامني في لبنان أسوة بكثير من دول العالم، كفرنسا التي أقرّت القانون التضامني (قانون الاقتصاد الاجتماعي التضامني) عام 2014، “لكنّ هذا الشكل من الاقتصاد يمكن البدء ببنائه قبل إصدار هذه التشريعات، كما الحال مع شبكة “تضامن الناس”، يختم أبوشقرا.
نماذج عن الاقتصاد التضامني:
1- مشروع “الدكانة التعاونيّة”
الناشطة المتطوّعة في شبكة “تضامن الناس”، رشا أوطه باشي، توضح لـ”أحوال” أنّ هذه الشبكة هي مجموعة تطوعيّة تعرّف أفرادها ببعضهم البعض أثناء عملهم الإغاثي، منذ اندلاع حرائق الشوف أواخر 2019، مرورًا بجائحة كورونا، وصولًا إلى 4 آب تاريخ انفجار مرفأ بيروت، وما تبعه من حاجة لإغاثة المتضرّرين من جهة، ومن تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي من جهة أخرى، لافتة إلى كون تلك الخلايا تضامنيّة لا مركزية، فقد شملت بعد الرابع من آب مساحة لبنان ككل، وذلك من خلال توزيع أدوية وحصص غذائيّة، بالإضافة إلى ترميم بعض المنازل المتضرّرة جراء الانفجار، ليتم العمل بعدها على هيكلة تنظيميّة ذات خلايا عديدة، إحداها “خلية التضامن الاقتصادي” الهادفة لمساعدة الناس على المدى المتوسّط والبعيد، وتقديم بدائل اقتصاديّة مستدامة.
من هنا، تتابع أوطه باشي، “تم إنشاء تعاونيّة في بيروت، قوامها تشاركي يسمح لأي شخص بأن يكون شريكًا بها، من خلال دفع رسم شهري حسب استطاعته (5000 ليرة لبنانية وما فوق)، ما يمكّنه من الحصول على حاجيّاته بسعرها الأساسي من المنتج، أي دون أي أرباح إضافيّة، في خطوة تهدف إلى تحقيق المساواة على صعيد القدرة الشرائيّة لجميع الناس دون تمييز”، على حد تعبيرها.
2- معمل الألمنيوم والزجاج
بدوره، المتطوّع في خليّة التضامن الاقتصادي، أمير المغربي، يقول في حديث لـ”أحوال” إنّ متطوّعي “تضامن الناس” التقوا، بحكم عملهم الإغاثي، بمجموعة من المهندسين بعد انفجار المرفأ، وقد عاينوا عن كثب وجود نقص في بعض مواد البناء، بسبب صعوبة استيرادها بعد ارتفاع سعر صرف الدولار، “لذا قرّرنا خوض تجربة انتاجيّة، بدل الاكتفاء بانتظار تحسّن الوضع الاقتصادي في لبنان”.
تلخّصت الفكرة، بحسب المغربي، “باستخدام جزء من التبرعات التي تصل إلى “تضامن الناس” لتوظيفها في مشاريع اقتصاديّة تضامنيّة، كمعمل لـ”الزجاج والألمنيوم” الذي تم تأسيسه بغية توظيف عدد من العمّال من ذوي الخبرة، بالإضافة إلى العاطلين عن العمل أو الذين خسروا وظائفهم في الفترة السابقة بسبب سوء الوضع الاقتصادي، ليتحولوا إلى مالكين لإنتاجهم من جهة، ومساعدين في المجال الإغاثي من جهة أخرى، “فكانت البداية مع زيارة لمنطقة الكارانتينا، حيث تم اختيار المكان والعمّال، لتتم بعدها دراسة التكاليف والتفاصيل المتعلّقة بالتجهيزات والمعدّات المطلوبة، ثم البدء في البحث عن مصدر لتمويل الفكرة”.
إلى ذلك، يؤكّد المتطوّع في “خليّة التضامن الاقتصادي” لموقعنا أنّ “المعمل سيفتح أبوابه في غضون 10 أيّام، وهو مملوك من قبل العمّال، ولا يتعارض مع قانون التعاونيّات القاضي بضرورة تحقيق الإفادة للمجتمع، وبتحسين الوضع الاقتصادي الخاص بمالكيه، وهو ما يحقّقه المعمل بالفعل”، مضيفا: “سيقدّم المعمل خدماته في الفترة الأولى (ما بين 6 و8 أشهر) بشكل مجّاني للأشخاص الذين دُمّرت بيوتهم أو أجزاء منها خلال انفجار 4 آب، إذ ثمّة العديد من المنازل التي لم تتم مساعدتها حتى الأن؛ ثم قد يتحوّل إلى معمل تعاوني يقدّم خدماته بسعر أرخص من سعر السوق، بعد معالجة مسألة تسجيله، وذلك بهدف توفير تكاليف لمشاريع أخرى”، وفقًا لـ”المغربي”.
وفي الحديث عن العراقيل، يلخّصها المغربي بصعوبة تأمين المواد الأوليّة الصناعيّة من جهة، وبوجود عقبة قانونيّة من جهة أخرى، فـ”القانون الخاص بالتعاونيّات يحتاج إلى الدراسة والتعديل والتطوير، بهدف دعم القطاع الصناعي وتحقيق التقدّم الاقتصادي”.
المخطط المستقبلي
هذا ويؤكّد أمير المغربي أن نجاح المعمل وتحقيقه لأهدافه، سيمكّن كل راغب في تطوير قدرته على الإنتاج من الانضمام إلى التعاونيّة التي قد توسّع نشاطها لخوض تجارب أخرى، وستشجّع بطبيعة الحال الآخرين على خوض تجارب شبيهة أيضًا، إلا أنه -المغربي- يعود لطرح إشكاليّة تعديل القوانين، إذ “من حق التعاونيّات أن تسعى للربح، تمامًا كحق الشركات، بل إنّها تملك الأولويّة نسبة لكونها تبحث عن حلول اقتصاديّة جذريّة، بدل الحلول “التسكيجيّة” التي تطرحها السلطة؛ وكونها تهدف إلى تثبيت الديمقراطيّة الاقتصاديّة والاقتصاد التشاركي، بدلًا عن الاقتصاد الهرمي القائم”، بحسب تعبيره.
وفي السياق، اطّلع “أحوال” على مستندات تتضمّن بعض المواد المتعلّقة بقانون الجمعيّات التعاونيّة، حيث غاب فيها قانون خاص بتصنيف وتنظيم عمل الاقتصاد التضامني، الذي يشمل التعاونيّات الانتاجيّة. فمتى تتحرّر القوانين من رحمة القرارات السياسيّة ومصالح أربابها؟ وهل سيقتدي هؤلاء بدول عدّلت القانون الخاص بالجمعيّات التعاونيّة في السنوات الأخيرة كفرنسا وتونس لاحقًا، كخطوة قد تخفّف من وطأة الأزمة الاقتصاديّة الراهنة؟ أم أنّ الكلمة الفصل ستبقى بيد أصحاب السلطة؟
هل ستسمح المنظومة الحاكمة في لبنان، بحلول جذريّة تسمح للشعب بالاعتماد على نفسه وباستعادة السيطرة على مصيره ومستقبله، بدل اعتماده على المنظومة الحاكمة ونموذجها الاقتصادي؟ أم انّها ستكتفي بـ”تسكيج” أزماته من خلال مساعدات لا تغني عن جوع سوى أنّها تؤخّر “ثورة الفقراء”.
تيمة حطيط