منوعات

العلاقة بين بكركي وبعبدا: تاريخٌ من التنافس المكتوم

هل يبحث الراعي عن مهام لتقويض دور رئيس الجمهورية؟

بعد أن طال الفراغ الحكومي وعجز المعنيّون للشهر الرابع عن تشكيل حكومة في واحدة من أكثر المراحل إحراجًا تمرّ على البلاد، دخلت بكركي، التي لم تنأَ يومًا عن السياسة، على خط التنيسق، بحيث نجح الرئيس المكلّف سعد الحريري بإدخال البطريرك بشارة الراعي لتقديم ما يشبه المسعى لإحياء التواصل مع سيّد بعبدا.

الحريري الذي أراد بإقحام غبطة الوسيط أن يقول إنّ المشكلة سياسية محض مع فريق محدّد لا مع طائفة الموارنة، أعاد إلى الأذهان سياسة شدّ الحبال بين أرفع مقامين عند المسيحيين، رئاسة الجمهورية ورأس الكنيسة المارونية، واللّتين لطالما جمعت بينهما علاقة ملتبسة شابَها التنافس المكتوم.

فقد شهدت العلاقة بين بكركي وبعبدا على مرّ الأزمنة تاريخًا طويلًا من المدّ والجزر، عرف خلاله الطرفان غِيرتين، غيرة من بعضيهما إذ عدّ كلٌّ منهما نفسَه قائدًا على الطائفة، وغيرة على بعضيهما إذ عمل “المتنازعان” على حماية موقعيهما من منطلق المحافظة على هيبة مراكز الطائفة في ظل التسابق الخفي الذي يتمظهر مع كلّ استحقاق.

ظل الموارنة طوال عهد المتصرفية يحلمون بحكم جبل لبنان ولا يُخفى ما كان للبطريرك الياس الحويك من دور في مؤتمر الصلح في باريس لتوسيع حدود المتصرفية. وقد تمّ له ذلك عندما أعلن المفوض السامي الفرنسي هنري غورو قيام دولة لبنان الكبير. لكنّ الموارنة فوجئوا بتنصيب شارل دبّاس الاورثوذكسي أوّل رئيس للجمهورية سنة 1926 فارتضوا مرغمين معزّين أنفسهم بأنّ مدّة الرئاسة كانت ثلاث سنوات فقط، ثمّ فوجئوا بتجديد ولايته سنة 1929 لمدّة ثلاث سنوات أخرى. وعندما احتدم الصراع سنة 1932 بين إميل ادّة الماروني ومحمد الجسر المسلم السني على الرئاسة وخوفًا من وصول الجسر إلى سدّة الرئاسة عمد المفوض السامي إلى حلّ المجلس النيابي وتعليق الدستور والتمديد لشارل دبّاس مدّة سنة بعدها انتخب حبيب باشا السعد رئيسًا. فتحقق بذلك حلم البطريركية بانتخاب أول رئيس ماروني للجمهورية اللّبنانية.

قد تكون هذه “المعركة” التي ناضلت لأجلها البطريركية هي التي دفعت بها إلى الحرص على مقام رئاسة الجمهورية مهما وصل الخلاف من حدٍّ، فهي تعدُّ نفسها “أمّ الصبي”. إلّا أنّ ذلك لم يحل دون وقوع تفاوت في وجهات النظر وصل في كثير من الأحيان إلى حدّ الخصومة، ولكن في كلّ مرّة كانت تحرص البطريركية على حصر الخلاف مع شخص الرئيس محيدّة مقام الرئاسة عن التجاذبات السياسية والتطاولات الخطابية.

شهدت العلاقة بين بكركي وبعبدا على مرّ الأزمنة تاريخًا طويلًا من المدّ والجزر

 

إذن لم يكن موقف البطريركية مؤيدا لرئيس الجمهورية الماروني بشكل مطلق بل خالفه باستحقاقات كثيرة، منذ معارضة البطريرك انطوان عريضة للرئيس حبيب باشا السعد والفرنسيين في قضية احتكار التبغ ومعارضة البطريرك بولس المعوشي للرئيس كميل شمعون، فالأوّل كان على صداقة مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر ضد حلف بغداد الذي انضمّ إليه شمعون ما خلق خصومة حادة بين المقامين وصل معه أنصار الرئيس إلى تلقيب البطريرك بـ”محمد المعوشي”.

علاقة المعوشي بشمعون ورثها الرئيس فؤاد شهاب، فبعد أقل من سنتين على ولايته راحت الخلافات بين شهاب والمعوشي تتنامى تدريجيًا إلى أن أضحت في السنتين الأخيرتين تحت وطأة قطيعة لم يجهدا لمعالجتها ونأى كلّ منهما بنفسه عن الآخر، إلى أن طلب البطريرك من الرئيس الأميركي جون كيندي الحؤول دون التجديد للرئيس فؤاد شهاب قبل سنتين من انتهاء عهده، علمًا أنّ الأخير لم يشأ التمديد.

بدا البطريرك بولس المعوشي مأخوذًا بتعاطي السياسة، كان يريد من رئيس الجمهورية استجابة لكلّ ما يطلبه منه بلا تردّد، ويصرّ على أن يستمزج الأخيرُ رأيَه في خيارات وقرارات السياسة الكبيرة التي يتخذها، بحسب ما ورد في كتاب “جمهورية فؤاد شهاب” للكاتب نقولا ناصيف.

عام 1975 انتخب البطريرك أنطون خريش خلفًا للمعوشي بعد وفاته، وقد عُرِف بوطنيته وعروبته وشخصيته الأقل سطوة من سلفه، إلّا أنّه قاد الكنيسة المارونية في فترة مضطربة من تاريخ لبنان بسبب اندلاع الحرب الأهلية، فلم يشهد عهده أحداثًا نافرة مع رؤساء الجمهورية، وتنازل بعد 11 عامًا إلى البطريرك مار نصر الله بطرس صفير الذي جافى الرئيس الياس الهراوي كما ناصب الخصومة للرئيس اميل لحود على خلفية “رضوخهما” للوصاية السورية آنذاك.

كان البطريرك يريد من رئيس الجمهورية استجابة لكلّ ما يطلبه منه بلا تردّد

استكمالًا، شهد الموقعان كباشًا خفيًّا بين البطريرك الراعي والرئيس ميشال عون، وقد حكمت المزاجية بفعل المواقف المتناقضة التي كان يتخذها الراعي، فقد بدأ العهد بوفاق لم يرقَ الى حدّ التحالف الدائم إذ ما لبث أن انقلب إلى تباينات تطوّرت فيما بعد إلى خلافات، خاصة مع رحلة الحريري المريبة إلى السعودية عام 2017، ولكن حتى في أحلك التباينات لم يصل الأمر إلى حدّ قبول بكركي بالمطالبة باستقالة الرئيس وذلك للمحافظة على موقع الرئاسة الأولى.

فهل يكون دخول الراعي اليوم على خط الوساطة لتسريع تأليف الحكومة هو مجرّد خطوة استعراضية في إطار البحث عن مهام لتقويض دور رئيس الجمهورية، بحيث يقول من خلال هذه “المبادرة” إنّ البطريركية تتدخل حين تعجز رئاسة الجمهورية؟.

 

نُهاد غنّام

نُهاد غنّام

صحافية تمارس المهنة منذ العام 2007، حائزة على الماستر في الصحافة الاقتصادية من الجامعة اللّبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى