بتلون الشوفية نموذجاً بيئياً للفرز من المصدر
لم تقارب السلطة في لبنان ملف النفايات المنزلية الصلبة برؤى وتصورات قابلة للحياة، في مـا عدا “إنجاز تاريخي” تمثل في تبني الفرز من المصدر، شعاراً جاهزاً لحملات إنتخابية؛ فليس ثمة مرشح ونائب إلا واستحضر البيئة على قائمة أهدافه، لكن “طَـبْعَ” اللبنانيين “نَسَّـى” والذاكرة تخون، خصوصاً في دولة موسومة بالفساد، وبشهادة أممية، حيث صار أقصى المطلوب “مساعدات إنسانية” عاجلة، لنصبحَ، نحن رعاياها، من حَمَلةِ البطاقات التموينية، همّنا الأول، القليل من السكر والطحين والمعلبات، والإنتظام في طوابير الذل، ومن يدري؟!
ليس ثمة دولة في العالم استهلكت وقتاً في معالجة نفاياتها نظرياً مثل لبنان؛ ورشات عمل، مؤتمرات، والنتيجة آلاف المكبات العشوائية، مطامر شاطئية، وقبلها تفتَّق العقل السياسي عن حل بتوريد النفايات إلى الخارج، فكانت فضيحة “أبطالها” بعض أُولِي الأمر، وحاضرنا كله فضائح، حتى صار للبنان “جبال نفايات” ومزابل ترصدها الأقمار الاصطناعية، حتى ليظن الناظرُ إليها أنها جزء من “طوبوغرافية” لبنان جديد.
النفايات “مزراب دهب”
عجزت الحكومات المتوالية منذ “الطائف” إلى اليوم عن تبني خطة استرايجية لمعالجة النفايات المنزلية الصلبة، وثمة أسبابٌ لهذا العجز غير منفصلة عن مبدأ التحاصص والتلزيمات، بعد أن اكتشف أُولو الأمر إيَّاهم أن النفايات “مزراب دهب”، لكن ليس عبر تبني الإستدامة: التخفيف، الإستعادة، التدوير والتسبيخ، وإنما من خلال الطمر وتسويق المحارق، ما يوفِّر صفقات وسمسرات، غالباً ما تُوزّع مغانمها بالقسط والعدل بين منِ ائتمِنوا على صحة اللبنانيين وأمنهم وسلامهم.
في قمة العجز، رمت الدولة الكرة في ملعب البلديات والإتحادات البلدية، وكان الهروب إلى الأمام مجلبةً لمشكلات أكبر، واعتبرت السلطة أنها حققت “إنجازاً” زيَّنتهُ بتبنِّي مبدأ اللامركزية في إدارة النفايات، فيما هي تمعن، ولا تزال، في حجب أموال البلديات.
بتلون والإستدامة
في مقاربة ميدانية لعمل البلديات وكيفية معالجة نفاياتها، وفي سياق الإحاطة بهذا الملف، استطلع “أحوال” واقع عدد من البلديات، لكن أكثر ما استوقفنا نموذج بلدة وبلدية بتلون في قضاء الشوف، الواقعة ضمن المدى الحيوي لمحمية أرز الشوف، دون إغفال نماذج عدة يمكن الإطلال عليها تباعاً لاستخلاص الدروس والعبر.
أبعد من موضوع النفايات، تحوّلت بتلون إلى قرية نموذجية لجهة تكريس التنمية المستدامة، فاستحدثت “درب الحارة” البيئي، وهو ممر لهواة المشي في الطبيعة، يمتد من بتلون الى الباروك والمعاصر، وصولاً لخراج بطمة، فضلاً عن مبادرات متصلة بالتنمية الريفية، فيما يبقى مشروعها الرائد متمثلاً بإدارة البلدة لملف النفايات، بمشاركة السلطات المحلية والجهات المانحة، وصولا إلى إلى معالجة النفايات المنزلية والحد من استنزاف موازنة مجلسها البلدي.
قيس: التسبيخ في الحديقة الخلفية
في العام 2016 توقفت شركة “سوكلين” عن العمل، وأنيطت المهمة بشركة “سيتي بلو”، إلا أن شيئاً لم يتغير، ما دفع البلدية للبحث عن خيارات لخفض التكاليف، بعد أن وصل دين البلدية إلى نحو مليار وخمسمئة مليون ليرة لبنانية (أي ما يعادل مليون دولار)، وهو “مبلغ ضخم للغاية، يتم اقتطاعه من الصندوق البلدي المستقل بمعدل 30 و35 بالمئة”، بحسب ما أشار لـ “أحوال” رئيس البلدية مروان قيس، قائلاً: “آلينا على أنفسنا تسليم البلدية في نهاية مدة ولايتنا بواقع أفضل وديون أقل وبيئة نظيفة”، لافتاً إلى أنه “كان هناك مكب للنفايات بشكل مؤقت، عملنا على تنظيفه توازياً مع خطة للتحوّل نحو الفرز من المصدر”.
وتواصلت البلدية مع “جمعية البيت اللبناني للبيئة” ورئيسها الشيخ نظام أبو خزام، وبحسب قيس “ساعدتنا الجمعية في حملات التوعية وتقديم مستوعبات صغيرة للمطبخ، بالإضافة إلى جمعيات أخرى مثل الإغاثة الإسلامية – فرع فرنسا، جمعية Mercy Corp، Mores، USAID وUKAID وغيرها”.
وإذ عرض لـ “التعاون الدائم مع محمية وجمعية أرز الشوف”، قال قيس: “بدأنا بخمسمئة مستوعب، وُزعت على المنازل لجمع المواد القابلة للتدوير، وفي 2017، بدأنا بفكرة “التسبيخ في الحديقة الخلفية” Backyard Composting، بحملة أطلقنا عليها (منكب أقل لنزرع أكثر)، واستحدثنا صناديق من الخشب دون سقف ولا كعب مع توزيع علب (زوادة بكرا) إلى المطاعم، وفي المرحلة الثانية قمنا بالتعاون مع (الإغاثة الإسلامية – فرع فرنسا)، بتوزيع 500 طائر دجاج على المنازل”.
مشكلة العوادم
ووزعت البلدية مستوعبين لكل منزل، قُدمت مع جرافة صغيرة من خلال “جمعية مرسي كور” وتمويل UKAID)، أحدها للمواد التي يُعاد تدويرها والثاني للعوادم، ولفت قيس إلى أن “نائب الشوف تيمور جنبلاط قدم مولداً كهربائياً لتشغيل آلات مركز الفرز”.
وتُجمع النفايات بصورة دورية من البيوت، ومن ثم تُفرز وتوضب في هنغار. وبحسب قيس “زودناه بآلية لكبس المواد وفرم البلاستيك وآلية بوبكات لمعالجة المواد العضوية، التي تجمع من البنايات التي لا يوجد فيها حدائق ومن محال الخضار، وهناك مساحة مخصصة للمواد العضوية مجاورة لمركز الفرز، يجري تقليبها وتهوئتها باستمرار حتى تجف، ثم توزع على الأراضي الزراعية بعد أن تتحوّل سماداً عضوياً”.
وعن المواد العادمة، قال: “تنقلها شركة خاصة لمطمر الكوستابرافا، وتتكلّف البلدية بكافة مصاريف الجمع والنقل والفرز وصيانة الآليات والمحروقات التي تقدر بـ 10 ملايين ليرة شهريا”، لافتاً إلى أن “العوادم هي المشكلة الأكبر الموجودة بكل مكان”.
الطاقة المتجددة
وأشار قيس إلى أن “فرز النفايات والمواد العضوية ساهم بتقليل نسبة النفايات بأكثر من 50 بالمئة، إذ نجمع بمعدل 50 و60 طناً بالشهر من النفايات مقابل 100 و120 طناً سابقاً، ما خفض التكلفة إلى النصف”، منوّهاً إلى أن “منشأة إعادة التدوير تساهم في جزء من رواتب العمال وأجرة النقل”.
وإذ اشتكى قيس من الجباية، أوضح أن “آخر دفعة وصلتنا من مخصصات البلدة عن عام 2018، كانت أقل من 60 مليون ليرة، تكاد لا تغطي كلفة النظافة والمصاريف الإدارية لثلاثة أشهر فقط”.
واعتبر قيس أن “الملف البيئي يشمل استخدام الطاقة المتجددة في المستقبل القريب، لتوليد الطاقة الكهربائية ضمن مشاريع بالتعاون معCLIMA-MED وUnion For the Mediterranean، حيث سيتم في المراحل الأولى توليد الطاقة الكهربائية لمبنى البلدية من الطاقة المتجددة، ومن ثم المؤسسات والمدارس الرسمية”.
ربح: إلتزام كبير
ومن جانبه، عرض رئيس اللجنة البيئية في البلدية فراس ربح لـ “حملات التوعية”، وقال: “أخذنا عينات عشوائية من المستوعبات لنتابع مدى الإلتزام بالفرز، وكانت كل مرحلة ترافقها حملة حتى وصلنا إلى أن نرفض النفايات غير المفرزة، بهدف الإلتزام التام بعملية الفرز من المصدر وأصولها”، وقال: “حاليا، ليس ثمة مستوعبات للنفايات في البلدة وهي نظيفة تماما، وهناك التزام كبير وتعاون من الأهالي، سواء في عملية الفرز في المنازل، أو في تنفيذ وتصميم الصناديق الخشبية الخاصة بالتسبيخ أو بالفرز والتدوير”.
محمود: إلتزام وتجاوب
ورأى رامي محمود (من سكان بتلون) أن “الحملة ممتازة ومن كافة النواحي، وأصبحت بتلون مميزة بين قرى الجوار، بالنظافة والمشاريع المستدامة”، لافتاً إلى أن “هناك التزاماً وتجاوباً كبيرين، وهو أمر يُشكر عليه المجلس البلدي، فضلاً عن المشاريع الأخرى التي تتم متابعتها في مجال البيئة”.
جابر: نظافة البلدة
من جهتها، قالت ندى جابر (ربة منزل) أنها تهتم بالزراعة العضوية، فضلاً عن خيمة تزرع فيها نباتات عضوية وتبيعها للسوق المحلي، وقالت: “أمارس الطرق التقليدية في المكافحة بتدخين المزروعات وحرق الأعشاب اليابسة بينها، وفي الخيمة الخاصة، أستخدام السماد العضوي من دجاج وماشية ومواد عضوية مسبخّة”.
وأضافت: “أقوم بطمر المواد العضوية قبل مبادرة البلدية، إذ اتبع طرق الأجداد، كما أن البلدية وزعت لكل مزارع 20 طائر”، وعن معالجة النفايات من قبل البلدية قالت جابر: “خطوة ممتازة على كافة المستويات، ساهمت في نظافة القرية، إذ تجمع البلدية ما ينتج من نفايات يعاد تدويرها، ولا نجد أياً منها على الطرقات العامة وفي الأحياء”.
أنور عقل ضـو