مبادرات فردية لإنعاش الثقافة بعد غياب معرض الكتاب
قد يتفق الجميع على أنّ لبنان لم يعد “سويسرا الشرق”، فالبحبوحة فيه مفقودة، وكذلك “راحة البال”؛ لكن من الصعب الاتفاق على خسارة لبنان لمكانته كمنارة للشرق، فهو بلد الثقافة والحريات، وهذه هي رسالته.
وحمل هذا العام معه الكثير من الأزمات، ليأتي الانهيار ويضرب كل القطاعات، ومنها الثقافة. إذ يُغيّب معرض بيروت الدولي للعام الثاني، بعدما أحدث انفجار مرفأ المرفأ دماراً في مبنى البيال حيث يُقام المعرض، ودمّر معه جزءاً من ثقافة المكان والزمان.
إلى ذلك، كشف إلغاء الحدث أزمة أكثر عمقاً؛ فالجهات المنظمة وكذلك دور النشر، لم تتمكن من إقامته في مكان آخر، ما يعكس تأثير الأزمة المالية في البلاد على قطاع المطبوعات، تزامناً مع تراجع القدرة الشرائية للقراء.
أمام هذا الواقع، حري بنا أن نسأل: هل ما زال بإمكان اللبنانيين أن يقرؤوا؟ وكيف تبدو بيروت “عاصمة الكتاب العربي”، بلا معرض الكتاب؟ وهل نحن أمام انهيار ثقافي كجزء من الانهيار اللبناني الشامل؟
تأثير مضاعف لغياب المعرض
نُظم معرض بيروت الدولي للكتاب للمرة الأولى بمبادرة من النادي الثقافي العربي عام 1956. وكان الأول من نوعه عربياً، وما لم تستطع الحرب اللبنانية على تغييبه، غيّبته أزمة كورونا متوازية مع الانهيار المالي.
في هذا السياق، يقول رئيس النادي فادي تميم في حديث لـ”أحوال” إنّ إلغاء معارض الكتب حول العالم كان له تأثير سلبي على الثقافة العالمية، لكن تميم، لا يخفي أن التأثير مضاعف في لبنان، لما للمعرض من رمزية تاريخية وثقافية، رافضاً اعتبار هذا الغياب المترافق مع أزمة دور النشر، نعياً لدَور الثقافة في لبنان.
ويضيف أن هناك بدائلاً تلجأ إليها الدور منذ سنوات كالإصدارات الرقمية، لافتاً إلى زيادة حجم الطلب عليها، ودعم النادي لها لضمان الاستمرارية.
ويعتبر أنّ الأزمة طالت كافة القطاعات، واستمرارها يعني تراجع الثقافة. وهنا يستشهد تميم بالقول “تريد ضرب مجتمع إضربه بثقافته”، داعياً المجتمع العربي ليساعد للنهوض بالثقافة العربية ككل.
حسرة على غياب معرض الكتاب
تقول ناهية غالييني وهي طالبة لغة عربية؛ “في المعرض نجد كل أنواع الكتب التي نريدها، فهو يوفر علينا عناء زيارة جميع المكتبات”. وهي إذ تقرأ الروايات، لم تتأثر كثيراً بغلاء أسعارها، فهي تقرأ بصيغة الـ PDF لسهولة السهر ليلاً على شاشة الـIPad.
في المقابل، تعتبر نادين قليمه، وهي طالبة إدارة أعمال، أنّ أزمة القراءة بدأت تتكشف منذ سنوات، وتنقل عن صاحب دار نشر عربية، قوله إنّه لم يستفد من المشاركة بالمعرض في السنوات الأخيرة على صعيد المبيعات، لكنه تعمّد الحضور نظراً لأهمية “معرض بيروت للكتاب” الثقافية.
وعن غلاء الأسعار، تلفت إلى أنّ بعض دور النشر تخفض الأسعار للطلبة الجامعيين،ما يوفّر عليهم الكثير، سيّما وأنها من الأشخاص الذين يخصصون الجزء الأكبر من ميزانيتهم لشراء الكتب.
و”إذا كانت القراءة هي الهدف”، يمكن تبادل الكتب عبر نظام الإعارة، أو عبر صيغة الـPDF.
زلزال 4 آب… مزاج القراء تأثر
نشأت رؤى نعيمة وهي طالبة إعلام في منزل يحتضن الكتب، والمكتبة وجهتها المفضلة. وفي غياب المعرض، تخشى من تراجع الثقافة في المجتمع.
نعيمة التي تحب قراءة كتب السير الذاتية والعلاقات الدولية وروايات الغموض، لجأت إلى قراءة الكتب المستوردة بصيغة البودكاست بعد أن أصبحت أسعارها خيالية. وتقول، في موسم الأعياد لا ضير إن طلبت من اقربائي المغتربين تزويدهي بالكتب.
لكن نعيمة لا تقرأ بصيغة الـ PDF، “فهناك مشاعر خاصة نحو الكتاب”، وهي اضطرّت لغربلة عملية الشراء كأن تسأل: ما المفيد؟ ما الاضطراري؟ ما الذي لن أجده لاحقاً؟
بعد انفجار مرفأ بيروت، اتجهت رؤى إلى قراءة كتب عن أشخاص مروا بتجارب نفسية صعبة. ليخلق الانفجار لدى ابنة بيروت، اتجاهاً جديداً في القراءة.
مبادرات فردية وحلول
من خلال ندوات معرض الكتاب نتعرف على كتّاب نقرأ لهم عن بُعد، وهي فرصة لنسج علاقة “حميمة” معهم. وبغياب المعرض، انقطع هذا “الحبل السري” بيننا، يقول سليم يونس.
يقرأ يونس كتباً فلسفية وروايات وكتب علم نفس؛ ويرى أنّ تقليص الإنفاق على الكتب أمر لا مفرّ منه في هذه الأوضاع الاقتصادية.
ولأنّ القراءة هوسه، أطلق مبادرة “نادي القراءة” الذي يجمع مجموعات في المناطق لمناقشة الكتب، “فكل منا يقرؤها على طريقته”.
مستقبلياً، تنتاب يونس فكرة إنشاء مكتبات متنقلة، فالكتاب له نكهته الخاصة. مع هذا، سمحت القراءة أونلاين بالوصول إلى كتب تخشى دور النشر طباعتها، وهي فرصة لتصل المعلومة بكافة الطرق.
يجد يونس الخوف على الثقافة مبرراً، فالوعي الذي تسببه القراءة يهدد وجود الأحزاب اللبنانية، لذا هي لا تفعل شيئاً لانقاذ هذا القطاع برأيه. لكن في لبنان “مطبعة الشرق”، من يسعى للمعرفة “لا شيء يقف في وجهه”.
تهديم ثقافة وبناء أخرى
ترى الكاتبة منى فياض أنّ القراءة في العالم العربي عموماً ليست نقطة قوة، وكذلك في لبنان، “فشعبنا لا يقرأ كثيراً”. ومع الاضطراب الاجتماعي في دولة تتعرّض للانهيار، نجد أن من يستغلون الوقت للقراءة هم “أقلية”. فالمشاكل النفسية تلاحق اللبناني على كافة الأصعدة وتجعل تركيزه على الحاجات الأساسية. فكيف إذا ارتفعت أسعار الكتب؟ وهو حاجز اضافي، تؤكد فياض.
وينعكس الوضع الاقتصادي وانفجار بيروت على القراء والكُتّاب، ليفرز الجسد مادة الكورتيزول السامة والتي تقف عائقاً ضد الانتاج الفكري. في المقابل، فإنّ وجود الإنترنت يؤمن استمرارية القراءة، لكن اللبناني بات بحاجة لتصفية ذهنه لينتج على كافة الأصعدة. فهو يصرف كل طاقته ليبقى قادراً على التحمّل وسط ظروف لم يشهدها بلد مثل بلده.
وإذا كانت الثقافة هي كل أوجه النشاط الانساني، فإنّ الإنتاج الفكري سيضعف في لبنان، فالناس “لا تستوعب” ما يحصل أمامها من انهيارات، وهي كي تنتج تحتاج لفعل المراقبة والتعبير، ما يحتاج وقتاً لترجمته بعد الخروج من تلك الصدمات.
مرحلة انتقالية
وعن خطر انهيار الثقافة كجزء من الانهيار التام، تعتبر فياض أنّ هناك ثقافة تذهب وتضمحل، لتحلّ مكانها ثقافة جديدة هي اليوم في طور البناء.
وهو وعي جديد انفجر عام 2019 ليبني ثقافة جديدة، والثقافة لا تُبنى في ليلة وضحاها، وهي ليست بالدرجة نفسها عند الجميع، وهي تبدأ من النخبة.
وهي ثقافة مواطنة لا تشبه ثقافة التبعية للزعيم، ثقافة تطالب بالنزاهة والشفافية وترفض الإنجرار للهويات الضيقة. من هنا تفاؤل فياض بالتغيير. وهي تلفت إلى أن البناء ليس سهلاً، فهناك مرحلة انتقالية صعبة جداً، والطبقة السياسية أوصلتنا إلى ما دون الخطوط الحمر، ما يتطلب إعادة بناء على كافة الأصعدة.
ميزتان تميزان لبنان وتحميان مستقبله برأيها: الحريات العامة والشخصية، والعيش المشترك الذي أصبح جزءاً من التكوين النفسي لشخصية اللبناني. وفيما تنافسنا إسرائيل اليوم لتأخذ مكانتنا الاستراتيجية في الشرق، انطلاقاً من مرفأ حيفا بعد انفجار مرفأ بيروت، لكنها لا تستطيع تقديم ديموقراطية تعددية يتفرّد بها لبنان في المنطقة.
تذهب فياض إلى أبعد من ذلك لتقول: البناء ضروري لاستعادة الدولة. وهي ليست خائفة على الشباب اللبناني ونتائج انتخابات الجامعات مؤشر على التغيير المستقبلي؛ بل متفائلة بأنّ لبنان سيقدم تجربة نموذجية للعالم. وهو أمر يحتاج للكثير من النضال والمعاناة لاستعادة التوازن.
وإذا كان تاريخ الشعوب يُكتب بالدم، إلا أنه يُكتب بالحبر أيضاً، والشعب الذي أشعل شعلة الثورة بعد 30 عاماً من الفساد، لا بد أن يسترد الشعلة يوماً، ليعود لبنان “منارة للشرق”.
فتات عياد