المسلسلات أقصت البرامج الفنّية ومطالب الفنانين المادّية أرهقت المنتجين
الإنتاج التلفزيوني بين "تعباية الهواء" والإعادات وغياب الإنتاجات المبهرة
عشرات المحطّات الأرضيّة والفضائيّة التي تبثّ برامجاً على مدى 24 ساعة متواصلة… ورغم ذلك، مشاهد حائر لا يستوقفه أي جديد فيه ولو القليل من الإبهار. مسلسلات تعاد هنا وهناك، وبرامج تجترّ الأفكار ذاتها كل مرّة… لماذا غابت الإنتاجات المبهرة وأصبحت استثناءً؟ ولماذا تعمد المحطات الكبيرة والصغيرة إعادة بث برامج قديمة معتمدةً فقط على البرامج السّياسيّة وبعض المسلسلات في الموسم الرمضاني كل عام؟ مجموعة أسئلة طرحناها على الكاتبة والسيناريست كلود صليبا، وعلى الناقد الفني محمد حجازي. فماذا قالا؟
كلود صليبا: استنساخ البرامج الأجنبية أقصى المبدعين وأثر على عجلة الانتاج
نلاحظ خلال السنوات الماضية انحسارا ملحوظا في البرامج الجديدة، حيث بات الانتاج شبه معدوم. لماذا؟ تقول صليبا “مما لا شك فيه أن الانتاج تراجع بشكلٍ واضحٍ لأسبابٍ عدّة، منها الوضع الاقتصادي السيّء الذي نعاني منه منذ فترة تمتد الى أكثر من خمس سنوات.”.
وتتابع ” من خلال عملي في مجال الدراما، أعرف من العاملين في الإنتاج التلفزيوني أن محطات التلفزة إما لا تدفع ما عليها من أموال، أو تتأخر كثيراً في ذلك وذلك بسبب التعثّر المادي. هذا العام ازداد الوضع الاقتصادي سوءاً، إضافة الى الأمن والسياسة، مروراً طبعاً جائحة كورونا التي أثرت في شكل مباشر على كلّ شيء. لكن بعيداً عن كل هذا، لا نستطيع أن نغضّ الطرف عن مسألة بالغة الأهمية هي اعتماد المحطات على شراء البرامج الجاهزة من الخارج وتنفيذها في العالم العربي. هذه البرامج اجتاحت شاشاتنا، ولطالما كنت أسأل نفسي عن السبب بينما لطالما كنا في لبنان سباقين في ابتكار أفكار لبرامج جديدة ومميزة، وبلادنا تزخر بالمبدعين في هذا المجال. أين هم هؤلاء الأشخاص ولماذا يهمّشون بهذا الشكل لصالح الأفكار المعلّبة… إقصاء المبدعين خطأ فادح ولا يجوز الاعتماد كلياً على أفكار الآخرين وتقليدهم. إضافة الى ذلك، عدد كبير من المحطات كثّف في الفترة الأخيرة البرامج السياسية والاقتصادية تماشياً مع الوضع في بلادنا، حتى مما قبل الثورة”.
وتحدثت صليبا عن اعتماد المحطات على إعادة البرامج أكثر من مرّة، وقالت إنّ المحطات أصبحت خالية من البرامج والأفكار الجديدة، حتى ولو بثت شبكة برامج جديدة مع كل موسم، لكن المُلاحظ أنّ الأفكار هي ذاتها، إما مكررة أو مستنسخة من برامج أخرى، بعيداً من التنويع. وقالت إنها لا تعرف تحديداً عدد المحطات الفضائية العربية، وهي لا تعتبر كثرتها خطأ، لكن يُفضّل أن تكون متخصصة في مجال ما، شرط عدم اجترار ذاتها. وربما من الأفضل بحسب صليبا اعتماد سياسة دمج المحطات لتقديم مضمون أقوى، ما سينعكس إيجاباً على الأوضاع المالية للمحطات، وبالتالي على الإنتاج ككل، خصوصاً ان الأوضاع الاقتصادية لا تنحصر في لبنان فقط، بل تمتد الى مختلف أرجاء الوطن العربي.
وعن غياب البرامج الحوارية خصوصاً في الموسم الرمضاني عكس ما كنا نشهد في السنوات الأخيرة، قالت صليبا إن سبب ذلك هو انتشار ظاهرة البرامج المستوردة من الخارج والتي أصبحت موضة وظاهرة. إضافة إلى أنّ المسلسلات الدرامية خطفت الأضواء من البرامج الحوارية حسبما قالت، مضيفة أن معظم هذه المسلسلات أيضاً مستورد حيث يتم الاعتماد على المسلسلات المدبلجة. وقالت صليبا: “انتاج برنامج فني ترفيهي ضخم يوزاي ماديا شراء عشر مسلسلات مدبلجة، لهذا من الطبيعي أن تلجأ المحطات الى أعمال لا ترهق موازنتها في ظل الأوضاع الاقتصادية الخانقة، رغم ان هذا الأمر سينعكس سلباً على المحطة في المدى البعيد وعلى مستقبلها واستمراريتها”.
وذكرت صليبا أن برامج السياسة والاقتصاد لا يمكن أن تحلّ مكان برامج الترفيه التي تحتل المرتبة الأولى في كل دول العالم. وتابعت “الطبيعة البشرية تهوى الترفيه وتميل الى ما يضحكها ويسليها”. وشددت صليبا أنه حتى في السياسة والاقتصاد ليس هناك انتاجاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، حيث أنّها شخصياً عانت من عدم تجاوب المحطّات مع أفكار ابتكرتها في مجالات الثقافة وغير ذلك. الكل يفضل الترفيه.
وختمت صليبا بالقول إنّه ليس خطأً إعادة عرض برامج قديمة ناجحة تابعها الجمهور وأحبها، شرط ألا يصبح ذلك موضة وينحصر البث بإعادة كل البرامج القديمة أو المسلسلات الدرامية. كل هذه البرامج أعيد بثها عشرات المرات، وصارت تعرض اليوم في الأوقات الرئيسيّة… من هنا أشدّد على موضوع المنتج اللبناني الذي يفترض أن يدعم العاملين اللبنانيين في هذا المجال وألا يتم اقصاءهم لصالح اليد العاملة العربية، هذا أيضاً أحد أسباب التراجع.
محمد حجازي: هناك فورة في الإنتاج على أعمال وأفكار تجتر نفسها!
بدوره يعتبر الصحافي المخضرم محمد حجازي حديثه أن سبب ضعف الإنتاج هو قبل أي شيء غياب الأفكار الجديدة. يقول ” الأزمات الاقتصاديّة والماليّة لمحطّات التلفزة موجودة في كل مكان، لكنها ليست المشكلة الوحيدة. حتى في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وليس فقط في العالم العربي، يعانون من مشكلة الأفكار الجديدة وهي غير متوفرة بغزارة. أصبحنا في مرحلة استهلاك الذات حيث تعيد المحطات والمشرفون على البرامج، إنتاج الأفكار ذاتها وإن حصل ذلك مع تعديلات طفيفة لكن الجوهر هو ذاته. معظم ما نراه إما تكرار او استنساخ.”.
ويتابع ” أما المشكلة الثانية تعاني منها البرامج هي مسألة الضيوف، حيث لا يكون الضيوف بالمستوى المطلوب كل الوقت. وإن كان الضيف من نجوم الصف الأول يرهق أكثر من ثلاثة أرباع الميزانية البرامج لأنه يطل مقابل بدل مادي ضخم. اما المسألة الثالثة فهي عدم ظهور نجوم جدد قادرين على استقطاب أكبر عدد من المشاهدين. الكل يتكل على المنظومة القديمة السائدة، اي استهلاك الأسماء الفنية ذاتها في كل مرة. هذه الأزمات أصبحت عبئاً على المحطات، حيث باتوا يشترون برامج جاهزة لبثها على الهواء. “تعباية هوا”.
وسألناه عن أزمة كورونا التي أثرت بلا شك على غزارة الانتاج بسبب غياب الاعلانات فقال: “جائحة كورونا لم تكن يوماً سبباً لتراجع الانتاج وقلّته. بل المسألة تتعلق بأزمات عدة متراكمة كما أوضحنا قبل قليل”.
وفي الوقت الذي باتت فيه كثرة المحطات الفضائية باتت لزوم ما لا يلزم، خصوصا ان معظمها لا ينتج جديدا بل يعيد انتاجات سابقة، اعتبر حجازي أن معظم المحطات مرّت بفترات مهمة ساد فيها الرخاء والبحبوحة بسبب الأرباح الطائلة التي كانت تُحقّق في البداية. اما اليوم فما يحصل ببساطة أن عدد القنوات ازداد في شكل كبير ومبالغ فيه لكنها بمعظمها فارغة من المضمون وليس فيها أي جديد. والدليل أن معظمنا عندما يجلس أمام شاشة التلفزيون، يدور على أكثر من 200 محطة ولا يتوقف عند إحداها إلا نادراً…. والسبب هو “برامج تعباية الهوا” في الوقت الذي لدينا فيه مشاهداً يتذوق يريد أن يقضي وقتا ممتعاً امام الشاشة.
وطرحنا السؤال أيضاً حول غياب برامج الترفيه والحوارات الفنيّة التي كنّا نشهدها خصوصاً في رمضان، وعمّا إذا كانت المسلسلات قد خطفت الأضواء من هذه البرامج. فقال:
“جميعنا كان يلاحظ الإنتاج الضخم والأموال التي كانت تٌصرف على برامج الحوارات الفنية، من أجور الضيوف بداية الى الفرق الموسيقية داخل الاستوديو، الى الديكورات المتنقلة والخ… بعد ذلك وجد المنتجون أنهم غير مضطرين الى تكبّد كل هذه المبالغ الطائلة، في الوقت الذي يمكن لهم إنتاج مسلسلات تجذب عدداً اكبر من المشاهدين ويمكن بيعها لعشرات المحطات… كثرة المحطات تخدم المسلسلات وليس البرامج الفنية، لأنه من الصعب جداً بيع برنامج حواري فني لأكثر من محطة، وإن تم بيعه يحصل ذلك بمبلغ زهيد أو على طريقة التبادل. بينما يختلف الأمر مع المسلسلات. وعلى سبيل المثال أذكر مسلسل “الهيبة” الذي وزّع على عشرات الدول ومنها جزر القمر. اما المشكلة بالمسلسلات فهي كثرة المنتجين لأعمال عادية تجترّ نفسها… بينما قلة قليلة هي الجهات المنتجة التي تهتم بإنتاج عمل ذي قيمة يمكن أن تشتريه المحطات الفضائية”.
وشدد حجازي على أن برامج السياسة والاقتصاد ورغم أنها مُشاهدة بنسبة كبيرة خصوصاً خلال السنوات الماضية، لكنها وحسب رأيه لا تحقق أرباحاً مادية وهي لم تكن يوماً بديلاً عن برامج الترفيه. كما أن البرامج السياسية غير مكلفة، والعكس هو الصحيح بالنسبة لبرامج الفن والمنوعات لتكون مبهرة. وإن لم تكن مبهرة لا تحقق نسب مشاهدة، وبالتالي لا إعلانات ولا أرباح.