محاربة الفساد إعلامياً: إثارة ومسؤولية وأجندات
تُعلن القنوات التلفزيونية اللبنانية خوضَها معركة ضارية في مواجهة الفساد عبر أشكال مختلفة من العمل الصحافيّ، تبدأ بالخبر وتصل حدّ الاستقصاء، تحت شعار المسؤولية الاجتماعية والوطنية اللبنانية.
فثمة شاشة تُكثر من أخبار الفساد، وتُحقّق في حيثياته؛ وأخرى تُفرد برامج متخصّصة في موضوعات الفساد، وغيرها قد تُجانبه وتكتفي بالبيانات والتلمحيات، لكنها جميعها على ضفة إعلامية واحدة!
بناءً على ما تقدّم، تُعطي قناةٌ نفسها الحق في الحكم على مسؤول أنّه فاسد فتقرّر إسقاط نظامه، وتحكم أخرى باسم الشعب، وثالثة تضع الخطوط الحمراء، وتحذّر، بل تُعاقب أخلاقياً.
في مقاربة لهذه البرامج والإشكاليات التي تثيرها، وبالنظر إلى حيويّتها وإثارتها، نتوجّه في “أحوال” إلى اختصاصيين وخبراء وقياديين في هذا المجال لنقف على آرائهم، ولنستفيد من خلاصات التجارب، لنضعها في متناول الجمهور، من دون إغلاق للإمكانيّات والاحتمالات المفتوحة على أكثر من خيار في الإيجابية والسلبية على حدّ سواء.
الإعلام أمام تحدّيات مهنيّة
يطرق جوزيف القصيفي (نقيب محرري الصحافة في لبنان) برامج مكافحة الفساد من زاوية تحدّيات العصر وأدوار الإعلام المجتمعيّة، في حديثه إلى “أحوال”، حيث يرى أن “وسائل الإعلام موجودة في مواجهة تحدٍّ، يتعلّق بدورها الخبريّ والتحليليّ، ويتمثّل في التنافس بينها وبين وسائل التواصل الأخرى، ما أوجب عليها العمل على خلفيّات الخبر وتحليل أبعاده والمؤثرات في تلك الأبعاد”.
لذلك يخلص القصيفي إلى وجوب خوض الإعلام ميدان مكافحة الفساد “انسجاماً مع دوره الجديد، بل مع أدواره الجديدة، والتزاماً بالواجب الوطني والأخلاقي، لأن ظاهرة الفساد طغت على المشهد الاقتصادي والمالي والسياسي في لبنان”، ويشترط لذلك “قواعد النزاهة والشفافية والموضوعية بل الحيادية، بالإضافة إلى واجب الاستدامة في العمل والإخلاص فيه ليكون في خدمة بناء الدولة واستمرار المسيرة الوطنية”.
من جهته، يؤيّد البروفسور أياد عبيد (أستاذ الإعلام والتسويق السياسي والرأي العام والدعاية في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية) نظرة النقيب القصيفي، ويصف دور الإعلام في المجتمع بالتنويري، ويقول في حديث إلى “أحوال”: يجب على الإعلام معالجة كلّ ما يهمّ الشأن السياسي والاقتصادي، والاجتماعي والتربوي… وكل ما ينتجه المجتمع، لأن الإعلام ذو وظيفة تنويرية عامة، وعليه أن يكون مرآة ذلك…”.
الثورة على الفساد “كلام فاضي”
لكن القيام بواجب مهنيّ محدّد قد لا يحقّق نتائج متوقعة، ولا يضمن خاتمة سعيدة، خصوصاً إذا كانت تعقيدات المجتمع المحيط شديدة ومزمنة؛ وفق ما يُظهره د. حسين غربيّة (أستاذ العلوم السياسية في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية) في حديثٍ إلى “أحوال”؛ حيث يعتبر – كأستاذ للعلوم السياسية منذ 20 عاماً – “أن النظام اللبناني هو أقوى نظام عربيّ، وهناك استحالة في تغييره… و”الثورة” كلام فاضي، ولن تأتي بنتيجة”، وذلك على الرغم من أن غربيّة يؤيّد “الكشف عن الفساد في برامج متخصصة لأنها ضرورية لإنشاء وعي عام أو التأسيس له في لبنان بانتظار التغيير المستقبليّ”.
ويُشير غربيّة – في الوقت عينه – إلى “أن أغلب ملفات الفساد المطروحة عبر الشاشات التلفزيونية صحيحة”، لكنّه يأخذ على الشعب اللبناني عدم اعتياده على هذا الأمر…”فيقوم باتّهام من يكشف الفساد بأنّه فاسد، ما يعكس الآية”.
مكافحة الفساد: أجندات سياسية
من زاوية أخرى، يُشدّد النقيب القصيفي على أهمية مكافحة الفساد، ويأسف في حديثه إلى “أحوال” لكون “مكافحة الفساد اليوم لا تجري وفق المبتغى، ودون ذلك محاذير، كما لو تمّ التركيز على فاسدٍ في سياق استهدافه كخصم سياسي…”.
ثم يعود ليؤكد واجب الإعلام في كشف: “الفساد والفاسدين والمفسدين بشرط أن يكون عمله هذا مستداماً، شفافاً، لا موسميّاً وغبّ الطلب، ولا وفق أجندات مرتبطة بالصراع السياسي وتقاذف كرة المسؤولية بين هذا وذاك، وهذه الجهة وتلك”.
وهذا بالتحديد ما يدعو إليه البروفسور عبيد بعد أن يؤكّد وجود “أجندات مختلفة المستويات، ويمكننا أن نتلمّسها عندما تقوم مؤسسة إعلامية بالتركيز على جهة محدّدة في موضوع الفساد وتترك الجهات الأخرى، أو تركّز على موضوع دون مواضيع أخرى”.
ومن زاوية حقوقية، يعبّر عمر نشابة (باحث وأستاذ جامعيّ متخصّص في العدالة الجنائيّة وحقوق الإنسان) لـ “أحوال” عن اعتقاده “أن الإعلام يُمكن أن يُساهم في مكافحة الفساد، وذلك بكونه أداة تثقيف ونشر معلومات ونشر وعي ربّما”، لكنّه يشترط لنجاح مهمة الإعلام في مكافحة الفساد أن يكون “لديه التوجّه الحقوقيّ؛ وهذا أمرٌ يصطدم بصعوبات عديدة”، لأنّ “الإعلام في لبنان ليس إعلاماً مستقلّاً إنما هو إعلام تجاريّ أو إعلام رسميّ حال معظم الدول العربيّة”، ما يؤدّي برأيه إلى أن يقتصر عمله على الشكليّات؛ “فإذا انتقل إلى الشأن الحسّاس والدقيق ومواجهة الفاسدين… نرى هناك تراجعاً ما، بسبب ضغوط مالية أو سياسية أو أمنيّة…”.
التبعيّة والدعاية السياسية
وفي حمأة البرمجة الإعلامية في مواجهة الفساد، وفي ظلّ الريبة من الأهداف البعيدة، يرى البروفسور عبيد أن “لا ضمانة في ألا تتحوّل هذه البرامج إلى مضامين دعائية سياسيّة موجّهة لمحاربة من يُعتبر خصماً في السياسة، بل العكس هنا هو الصحيح، حيث تنمو حرب القرائح والدعاية…وتنمو من خلالها الأكاذيب والأضاليل”.
ويشدّد عبيد على أن “الخطورة في الأمر أن الخلافات في لبنان عميقة الجذور، والارتباط بالأجبني قائم، وأجهزة الإعلام في لبنان متعدّدة ولها أجندات خارجية، ويبقى الضامن الوحيد هو القضاء النزيه الذي يمكنه معالجة الأمور كلها والبتّ فيها”.
العدالة في القضاء لا في الشاشات
من جهة أخرى، يدعو البروفسور عبيد إلى التزام برامج مكافحة الفساد حدودها الإعلاميّة، رافضاً “أن تتخذ صفة المرجعية القانونية لأن ليس لها الحق في هذا الأمر”، ويُسجّل في السياق أن البرامج، في الأعمّ الأغلب، “تتخذ صفة الإشهار. فعندما يتمّ تناول أيّ موضوع فإنّه يُصبح بمثابة إخبار ويكون بإمكان النيابة العامة التحرّك والاستقصاء وطلب المعلومات كي يُبنى على الشيء مقتضاه”.
فهل تستجيب برامج مكافحة الفساد لمتطلّبات العدالة؟
يرى د. نشابة أن إعلان وسيلة ما إرادتها “محاربة الفساد والفاسدين يُشكّل خطوة – ولو صغيرة – باتجاه تحقيق العدالة” إلا أنّه ينبّه إلى أن “متطلّبات العدالة تكون منظّمة في قوانين، قد تستدعي أحياناً خطوات للتأكّد من المعلومات، وعدم نشرها قبل التأكّد منها، وعدم تصنيف الناس، بالإضافة إلى احترام قرينة البراءة التي تقرّر أن كلّ شخص بريء حتى تثبت إدانته بالدليل الدامغ، ثم يجب إعطاء هذا الشخص أو هذه الجهة حق الدفاع عن النفس”.
ويستدرك نشابة بالتعليق على دور الإعلام الحقوقي فيقول:” الإعلام ابتداءً ليس مخوّلاً للحسم بصدقيّة الإثباتات التي تُعرض والتي يعرضها، ويجب على الإعلام أن يتواضع في طرح هذه الأمور، لأنه ليس جهة مستقلة، يمكنها أن تحسم في صدقيّة القرائن المعروضة أو التي تعرضها”.
العدالة الشعبية مطلوبة ولكن
وإن كان يمكننا تصنيف برامج مكافحة الفساد ضمن إطار العدالة الشعبية، وفق الأنموذج الأميركي، يُقدّم نشابة جملة من القواعد، ليقول: “إشراك الناس أمر أساس ورئيس، ولكن هناك عدّة تحديّات مرتبطة بكيفية تنظيم هذا الأمر، سواء في النظام الأنجلوساكسوني أم النظام المدني الفرنسي كذلك، منها الوصول إلى مستوى متقدّم من النضوج الديمقراطي والنضوج العدليّ؛ وهي تستدعي قياس مدى قدرة الشخص على التفريق بين المصالح والمبادئ، والتفريق بين الحكمة والعقل والعواطف”.
وفي تأصيل للعدالة الشعبية، يُعيدنا نشابة إلى دراسات سيزاري بيكاريا الريادية في علم الجريمة، والذي ألهم الأميريكيين نظام العدالة لديهم، حيث المحلّفون المجتمعون في هيئة شعبية يقومون بإصدار الأحكام”.
لكن نشابة يشدّد التأكيد أن للضمانة العدليّة متطلبات و”تتمثل بوجود مرجع متفق عليه، وهو المرجع القانوني”.
لا ضمانات لدى الإعلام
وفي سياق تشديده على مرجعيّة القانون في محاربة الفاسدين، يختم نشابة بالقول: “أنا لست متأكّداً إذا كان هناك ضمانات واقعية فعليّة تمنعّ تحوّل برامج مكافحة الفساد عن وظيفتها إلى مستوى آخر. وتبقى النية هي الأساس كيلا يتم توسّلها للقضاء على الخصوم السياسيين”.
وعليه، ترتبط برامج مكافحة الفساد بالدور المجتمعيّ للإعلام، وتُصنّف جذّابة ومثيرةً، إلا أنّها تتموضع على شفير جرفٍ قانونيّ، لا يعصِمها من أن تهوي في الظلم – في بلاد التفلّت – إلا ضوابطها الأخلاقية.
طارق قبلان