منوعات

حصاد 2020: انهيار اللّيرة وشحّ في الدّولار

يتخبّط لبنان في أسوأ أزماته الاقتصاديّة والماليّة، سيّما مع استمرار انخفاض سعر الليرة اللبنانية أمام الدّولار الأميركي الذي يسجّل حتى السّاعة رقماً قياسيّاً، بلغ في السّوق السّوداء أكثر من 8000 ليرة؛ في حين يبلغ سعر صرفه رسمياً 1515 ليرة. الأزمة التي تعصف بلبنان ليست وليدة السّاعة، فقد برزت في الأعوام القليلة الماضية تحذيرات كثيرة من انهيار اقتصادي وشيك.

وتحمّل المواطنون تبعات هذه الأزمة التي ترافقت مع تدهور سعر صرف اللّيرة، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية إلى أربعة أضعاف تقريباً، فانهارت القدرة الشرائيّة للمواطن؛ ليتوقف معظم المواطنين عن شراء اللّحوم والفاكهة والخضار. وانعكس الوضع الاقتصادي المأزوم في عام 2020 على الواقع الاجتماعي، ليفرز أزمة غير مسبوقة.

القطاع التّجاري: إقفالات بالجملة

امتدّت أزمة الدّولار سريعاً لتتحوّل إلى كارثة طالت جميع القطاعات الاقتصاديّة، وفي مقدّمتها القطاعات الحيويّة، فارتدّت تداعياتها على القطاع التّجاري أولاً، بعد أن  تعثّر نتيجة الأزمة الاقتصادية وتدهوّر القدرة الشّرائيّة للمواطن. ويقول رئيس جمعيّة تجار بيروت نقولا شمّاس، أزمة الدّولار فرضت عبئاً إضافياً على القطاع، حيث تسبّبت في انخفاض نشاطه بنسبة 90%، لاسيّما وأنّ معظم اللّبنانيين أصبحوا يخشون إنفاق أموالهم على سلع غير غذائية في وقت أصبح تواجد الدّولار في الأسواق شبه مستحيل.

ويضيف، المؤسسات التّجارية تضرّرت من جرّاء الأزمة، ما أفقدها عمودها الفقريّ، فأصبح القطاع يعاني من شلل بسبب إقفال آلاف المؤسسات، خصوصاً بعد أن نفدت إمدادت أصحاب الأعمال من البضائع مع عدم قدرتهم على الاستيراد، مقابل انخفاض المبيعات بسبب انعدام القدرة الشّرائيّة. ما زاد من خسائر القطاع إلى نحو 4 مليارات دولار.الليرة

الأمن الغذائي في خطر

ولم يكن القطاع الزّراعي بأفضل حال، خصوصاً وأنّ المستلزمات الزّراعية ما زالت تُستورد على  أساس سعر صرف السّوق السّوداء مع ما يرافق ذلك من زيادة خسائر القطاع، الأمر الذي يؤدي إلى الاستمرار بارتفاع الأسعار مقابل انخفاض الإنتاج الزّراعي، بحسب رئيس تجمّع ومزارعي البقاع إبراهيم ترشيشي.

وعن الخسائر المباشرة للقطاع يوضح أنّها وصلت إلى 130 مليون دولار تقريباً نتيجة الأزمة التي يمرّ بها لبنان.

ويشرح ترشيشي، أكثر من 80% من المزارعين، هذا العام، لم يتمكنوا من استعمال الأدوية لمكافحة الآفات والحشرات، وحوالى 50% منهم لم يحصلوا على الأسمدة الكافية لمزروعاتهم، فيما 100% لم يشتروا المعدّات الزّراعية الحديثة اللّازمة.

ويشدّد على أن القطاع الزّراعي لم يحصل على الدّعم المطلوب من قبل الدّولة، خصوصاً وأنّه شمل مواد زراعيّة من أعلاف وذرة وشعير على حساب مواد زراعيّة أساسيّة كالبذور والأسمدة والكيماويات. الدّعم شمل بعض التّجار الذين يستوردون الكيماويات والأسمدة من دون معرفة وجهة هذه البضائع وبالتالي لم يستفد القطاع الزّراعي كثيراً.

القطاع الصّحي إلى الهاوية

هذا، ووصلت تداعيات أزمة الدّولار إلى القطاع الصّحي أيضاً، ما جعله يقارب المشهد الكارثيّ، لاسيما بعد الحديث عن انقطاع المستلزمات الطّبيّة. ويشير أحد الأطباء إلى أنّ المستشفيات تفتقد إلى المستلزمات والمعدّات الطّبيّة، كما وأنّ القطاع بات يشكو من تراجع مخزون الأدوية وارتفاع غير مسبوق في هجرة الأطباء، مع تزايد تقلّبات أسعار الصّرف، وسط غياب تام لأي خطط إنقاذيّة أو بديلة.

ويعتبر الطبيب أنه إذا رفع الدعم عن الدّواء، فسيؤدي إلى انهيار القطاع؛ خصوصاً وأنّ المخزون المتبقي للأدوية في لبنان يكفي ثلاثة أشهر فقط.

القطاع الصّناعي: أزمة مصيريّة

كغيره من القطاعات الإنتاجيّة، تأثّر القطاع الصّناعي بالأزمة الاقتصاديّة، وبإقفال بعض المصانع، وهذا القطاع أصلا كان يعاني ويواجه تحدّيات كبيرة، خصوصاً أنّ تطوّره يشوبه معوقات وعراقيل عدّة، لعل أهمها غياب سياسة اقتصاديّة، وغياب الدّعم المطلوب لقطاع حيويّ له دور أساسي في إعادة إنعاش الاقتصاد.

من جهته، يقول نائب رئيس جمعيّة الصّناعيين زياد بكداش، تفاقمت أزمة القطاع مؤخراً بسبب أزمة سعر الصّرف المزدوج للدّولار، وحجب المصارف عن تحويل  الأموال إلى الخارج لشراء المواد الأوليّة، ووقف التّسهيلات المصرفيّة، ما وضعنا أمام كابوس الإغلاق وتسريح العمّال الجماعي.

ويضيف، الصّناعات التي تصنع المواد الغذائية والاستهلاكية زاد إنتاجها بنسبة  %20 بعد خسارة فاتورة الاستيراد، ما جعل المستهلك يتّجه نحو شراء  الصّناعة المحلية، وبالتالي وفّر الكثير على جيبه نظراً لأسعارها المنخفضة مقارنة مع المنتجات الأوروبيّة التي تضاهي مواصفاتها ونوعيّتها.

ويتابع، أنشأت بعض المصانع خطوط جديدة داخل مصانعها خصوصاً في مجالات الكمّامات وماكينات التّنفس.

ويشير بكداش إلى أنّ الثّقافة الصّناعيّة لدى اللّبناني تحسّنت، وبالتالي المواد الاستهلاكيّة المنتجة محلياً ستُبقي الأموال التي يُدفع ثمنها من قبل المستهلك، في الدّاخل، ولا حاجة لاستخدامها لاستيراد السّلع من الخارج، أي أنّ شراء المنتج اللّبناني سيخفّف قيمة المستوردات.

القطاع العقاري: جمود وقلق

هذا، ويعاني القطاع العقاري من جمود كبير، منذ ثورة ١٧ تشرين  الأول وحتى أيلول الماضي بعد أن بلغت قيمة المبيعات العقاريّة في لبنان حوالى 12 مليار دولار، ما دفع الموديعون اللّبنانييون إلى التّهافت على شراء العقارات، كونها وسيلة فعّالة لتحرير أموالهم العالقة في المصارف.

ويقول نقيب الوسطاء والاستشاريين العقاريين وليد موسى، رغم الأزمة الاقتصادية والماليّة الي يمرّ بها لبنان، إلّا أنّ القطاع العقاري بقي  ملاذاً آمناً للمودعين، باعتباره استثماراً قليل المخاطر ومن شأنه حماية أموالهم من القيود المفروضة عليها، والـ  “Haircut” أو “Bail in”، مع إمكانيّة المحافظة على قيمتها على المدى البعيد.

أما اليوم، دخل القطاع العقاري مرحلة جديدة حيث تراجع حجم العقارات المعروضة للبيع مقابل شك مصرفي، لأنّ المطوّر المديون تمكن من دفع قسم كبير من قروضه، وبالتالي، لم يعد هناك أي سبب يدفعه إلى بيع عقاراته، إلّا من خلال رفع أسعارها. إضافة إلى أزمة سعر صرف اللّيرة المتدني أمام الدّولار وقيود المصرف المركزي بتوفير الأموال للمودعين.

قطاع المحروقات: على وشك النّفاد

ولم يسلم قطاع المحروقات من أزمة الدّولار، فهو يعاني كما مختلف القطاعات في لبنان، بسبب ارتفاع سعر صرف الدّولار مقابل اللّيرة اللّبنانية، وسط أزمة سيولة متصاعدة، خصوصاً وأنّ واردات الوقود تدفع بالعملة الصّعبة، مقابل دفع المواطن لأصحاب محطّات الوقود بالعملة المحليّة.

الطلاب في الخارج: مصير مهدّد

وبدأت أزمة الطّلاب اللّبنانيين في الخارج مع أزمة ارتفاع سعر الدّولار في لبنان، مقابل تدهور العملة الوطنيّة، تزامن مع حبس المصارف لمدّخرات اللّبنانيين، ومنعهم من إجراء تحويلات ماليّة من حساباتهم، لأولادهم في الخارج.

ومنذ ذلك الحين، لم تتوقّف تظاهرات الأهالي  لإنصاف أبنائهم  والنظر إلى أوضاعهم، وضرورة إقرار سعر صرف الدّولار الرسمي لإرسال الأموال إلى أبنائهم. فهناك أكثر من 10 آلاف طالب في الخارج مصيرهم الدّراسي ما زال مهدّد بسبب أزمة الدولار.

أحد الأباء يقول بحسرة، نتعرض للذّل والمماطلة من قبل المصارف ، ننتظر ساعات، ويُطلب منا أوراق تعجيزية قبل إتمام عملية التّحويل. وبعد أن أوقفت المصارف اللبنانية إعطاؤنا أموالنا بالدّولار بل بالليرة اللّبنانية، على سعر صرف 3900 ليرة أصبحنا نتكبّد خسائر كبيرة.

وأقرّ مجلس النواب مشروع قانون “الدّولار الطّلابي” على عِلله، شاملاً فئة من الطّلاب دون أخرى. وفيما سيشكّل القانون الجديد حلّاً غير مستدام للطّلاب القدامى، فإنه لن يقدّم أي شيء للطّلاب اللّبنانيين الجدد في الخارج.

حلول وإصلاحات

وفيما يعزو بعض المحلّلين الاقتصادين أزمة الدّولار إلى “ثورة 17 تشرين”، يؤكد الخبير الاقتصادي د. محمود جباعي أنّ الثّورة ليست عاملاً أساسياً لانهيار سعر صرف اللّيرة اللّبنانية، ولكن سرّعت في كشفها.

وعن أسباب أزمة الدّولار، يشير إلى الانكماش الاقتصادي وارتفاع الدّين العام والعجز المالي، الصّراعات والتّناقضات السّياسيّة، النّهج الاقتصادي الرّيعي غير المنتج.

فهل من خطّة حكوميّة إنقاذية في ظلّ هذا الانهيار؟ يوضح جباعي أنّ سعر صرف الدّولار لا يمكن أن يعود إلى ما كان عليه سابقاً، خصوصاً وأنّ الدّولار خرج عن سيطرة مصرف لبنان بعد دخوله دوامة السّوق السّوداء.

ويتابع، لا بدّ من تشكيل حكومة إنقاذيّة تراعي الإصلاحات المطلوبة من الدّولة اللّبنانية، من أجل إعادة الثّقة بالاقتصاد اللّبناني داخلياً وخارجياً، على أن تقدم هذه الحكومة برنامج اصلاح شفاف، وأن تبدأ من تدقيق جنائي شامل كما أقرّة مجلس ّ في كافّة الادارات والقطاعات الاقتصاديّة، تخفيف الهدر بالقطاع العام، تخفيف كلفة الدين العام، اللّجوء إلى عمليّة إعادة النّظام الاقتصادي وتحويله إلى اقتصاد إنتاجي من أجل تخفيض الفجوة بميزان المدفوعات والميزان التجاري، ترشيد الإنفاق، وتحديد سعر صرف جديد على أن يكون ثابت في كل القطاعات الاقتصاديّة.

ناديا الحلاق

 

ناديا الحلاق

صحافية في صحف لبنانية عدة في أقسام السياسة الدولية والاقتصاد. كاتبة في مجلات عربية عدة ومواقع الكترونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى