حصاد عام 2020: فيروس كورونا يشلّ لبنان
وصلت جائحة “كورونا” إلى الأراضي اللّبنانية أواخر شهر شباط، وسط انخراط البلاد في أسوأ أزمتين اقتصادية ومالية في تاريخه. وجاء الوباء ليعجّل التدهور على جميع الأصعدة، ويضع لبنان أمام منعطف خطير نتج عنه أزمة إنسان، وأزمة اقتصاد، وأزمة معيشة.
الوصم الاجتماعي
أربك فيروس كورونا المواطن اللّبناني، ودفعه إلى تغيير عاداته وسلوكيّاته؛ ولعلّ أسوأ المواقف التي يمرّ بها مريض كورونا إلى جانب أوجاعه،نظرة النّاس إليه باعتباره مصدراً للعدوى يجب عزله وتجنّبه، وهي نظرة تمتد لتشمل أسرته، وقد تستمرّ حتى بعد شفائه تماماً.
محمد يروي لـ “أحوال” كيف شعر نفسه وكأنّه وباءً يخشى منه النّاس. ويقول: إصابتي بكورونا شكّلت عبئاً نفسياً عليّ، لأنّ مجتمعنا لا يرحم. رغم شفائي إلا أنني لمست نظرة المجتمع القاسية، فقد كنت أرى الخوف في عيون أصدقائي وأقاربي، جميعهم كانوا يخشون الاقتراب منّي، وبعضهم كان يبتعد بخوف شديد دون أن يراعي مشاعري، حتى أصبحت أشعر وكأنني “الوباء”.
أما سمير فيقول، شعرت بالعزلة فور وصولي إلى مطار بيروت رغم عدم إصابتي بكورونا، معظم معارفي تجنّبوا الاختلاط بي، حتّى بعد الانتهاء من فترة الحجر المنزلي 14 يوماً.
ويتابع، البعض أصبح يغيّر طريقه إذا ما كان يتقاطع مع خط سيري، والبعض الآخر يتجاهل إلقاء السلام عليّ، رغم أنّ الخوف من حامل المرض مبرّر، إلّا أن نظرة المجتمع تكاد تكون أخطر من الوباء نفسه.
ضرب موسم الأفراح
هذا واشتكى عدد من اللّبنانيين من عدم استرداد أموالهم من قبل أصحاب القاعات وصالونات التّجميل التي حجزوا فيها لمناسباتهم، بعد توجههم لإلغاء الحجوزات تطبيقا لقرار الدولة بإلغاء كل مظاهر الاحتفالات والتّجمعات للحدّ من انتشار فيروس كورونا.
وداع بلا عزاء
ولكن الأصعب من كلّ هذا أن تفقد عزيزاً دون أن تحظى بفرصة وداعه، أو أن تصلّي على جثمانه، أو تقيم مجلس عزاء. وهناك الكثير من العائلات اللّبنانيّة ودّعت أحبابها بلا مواساة لتواجه منفردة مصيبة الموت.
وتقول ماريا: كورونا قتلتني مرتين؛ عندما خطفت جدتي المسنّة وعندما حرمتني إلقاء نظرة أخيرة على عمّتي.
القطاع الصّحي يقترب من الانهيار
وعلى خط القطاع الصحيّ، يبدو أنّه بات على شفير الانهيار في ظلّ التّحديات التي يواجهها، خصوصاً بعد إعلان المستشفيات توقّفها عن استقبال المرضى إلّا في الحالات الاستثنائيّة للأمراض المستعصية.
وسجّل لبنان منذ بدء تفشّي الوباء في شهر شباط أكثر من 127ألف إصابة، بينها 991 وفاة. وبعدما نجحت الحكومة عبر إغلاق عامّ مبكر في احتواء الموجة الأولى، تسجّل البلاد مؤخراً معدّلات إصابة قياسية رغم عزل عشرات البلدات والقرى.
وفيما يوضح وزير الصّحة حمد حسن أنّ لبنان أصبح أمام منعطف خطير جداً وقارب المشهد الكارثي، يؤكد نقيب المستشفيات الخاصّة سليمان هارون أنّ المستشفيات تسعى إلى رفع عدد الأسرّة والغرف المخصّصة لمرضى كورونا، إلّا أنّ شحّ السّيولة وانعدام القدرة على التّمويل يقف عائقاً في وجهها.
وعن التّحديات التي تواجه القطاع يقول لـ “أحوال”، لا يوجد في كل المستشفيات طوابق مخصّصة لمرضى كورونا، والطواقم التّمريضيّة غير كافية، وبعضها يرفض العمل في الأجنحة المخّصصة لكورونا، إضافة إلى عدم تسديد المستحقات من قبل الدولة.
ويختم هارون، لبنان مقبل على كارثة حتميّة خلال الأشهر المقبلة، في حال تم رفع الدّعم من قبل مصرف لبنان عن القطاع الصّحي.
الوضع الاقتصادي كارثيّ
أما بالنّسبة للوضع الاقتصادي، فكان متوقّعاً أن تتطابق توقّعات صندوق النّقد الدّولي مع المشهد اللّبناني الرازح تحت ضغطي تفشّي فيروس “كورونا” والأزمة الاقتصاديّة النّاجمة عن حال “عدم اليقين”، التي تلفّ المناخ السّياسي، ويمكن قراءة النّتائج في الشّلل شبه التّام الذي يضرب أكثر من قطاع إنتاجي في لبنان.
بدورها، تشير الخبيرة الاقتصادية فيوليت غزال البلعة إلى أنّ الأزمة اللّبنانية سبقت “كورونا” بأشهر قليلة، وتحديداً حين تفجّرت “ثورة 17 تشرين”، وتفاقمت مع اهتزاز الثّقة نتيجة إعلان غير مسبوق لحكومة حسّان دياب قضى بتخلّف لبنان عن سداد ديونه الخارجيّة في آذار، مما أوقع البلاد في دوامة التّخضم المفرط عقب انهيار الليرة اللبنانية (خسرت نحو 80% من قيمتها عام 2020)، وحجز الودائع في المصارف نتيجة أزمة السيولة، الامر الذي أدى إلى أزمات معيشية بسبب النقص في الغذاء والكهرباء وارتفاع مستويات الفقر، زاد منها انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الذي بلغت خسائره الأولية بأكثر من 8 مليارات دولار، بحسب تقديرات البنك الدولي.
وتتابع، أزمة كورونا أصابت الاستثمار المحلي والخارجي نتيجة الضّبابية التي تحوط الأفق الاستثماريّة، فتوقفت كلّياً حركة الرّساميل الوافدة من الخارج فيما أحجم المستثمرون المحلّيون عن ضخّ أموال جديدة نتيجة حال اللاستقرار التي دفعت معظمهم إلى وقف نشاطهم وإقفال مؤسساتهم.
نكسة القطاع السياحي
ولم تكن السياحة اللّبنانية في أفضل حال، إذ أُصيبت بنكسة “كورونا” وانفجار مرفأ بيروت اللّذين قضيا على الموسم السّياحي ووسعا دائرة الأضرار في قطاع الفنادق نتيجة إصابة نحو 90% من فنادق ومطاعم العاصمة بالانفجار (163 فندقا و2060 مطعماً و40 شقة مفروشة و250 سيارة أجرة). وقد وقع قطاع المطاعم والمقاهي تحت أسر الجائحة والأزمة الاقتصادية، وخسر رساميله وأصوله وحركته التي حققت إيرادات بنحو 4 مليارات دولار عام 2018.
وعلت صرخة القطاع التّجاري، الابن البكر للاقتصاد. فقد تعثر نتيجة الأزمة الاقتصادية وتدهور القدرة الشّرائية وإجراءات مكافحة “كورونا” وانفجار مرفأ بيروت الذي تمرّ عبره نحو 70% من حركة التّجارة الصّادرة والواردة، ممّا أفقده نحو 80% من نشاطه وأدى إلى كساد البضائع في الأسواق وهجرة العلامات التّجارية (بلغ عددها نحو 40 علامة)، وإقفال آلاف المؤسسات، الأمر الذي فاقم خسائره لتفوق الـ 4 مليارات دولار (ما يوازي 8% من النّاتج)، بحسب البلعة.
ارتفاع منسوب البطالة
ومع تراجع مكوّنات النّاتج المحلّي، كان متوقعا ارتفاع معدّلات البطالة، لا سيما في صفوف الشّباب، حيث تشير أرقام “مؤسسة لابورا” إلى أنّ معدّل البطالة ارتفع من 36% في 2019 إلى نحو 60% هذا العام، فيما بلغت النسبة 98% في صفوف الشّباب والخريجين الجامعيين الذين باتوا يتطلّعون إلى بوابات الهجرة التي تضيق تدريجا نتيجة استمرار تفشّي “كورونا”.
الصّحة النّفسية: اكتئاب وقلق
وعلى صعيد الصّحة النّفسية لدى اللّبنانيين خلال أزمة كورونا، يبدو أنّ للوباء آثارأ عميقة على الإنسان في الحاضر والمستقبل، إذ تشير المعالجة النفّسية الدكتورة رندا البرّاج إلى أنّ فيروس كورونا استطاع تفتيت الرّوابط وبناء الحواجز بين الدّاخل والخارج وأعاد سجن الفرد في قوقعته.
وتقول: في الأسرة اللّبنانية، منع هذا الخوف الأفراد من مزاح بعضهم البعض بالحبّ والاستمتاع بالقبلات، فالموت المحتمل هدّد الحياة اليوميّة.
وتوضح، في البداية لم يكن باستطاعة المرء أن يتخيّل هذا الواقع، وفي الوقت نفسه لم يعد بإمكانه إنكاره. ولتجاوز الخطر، كان من الضّروري الحفاظ على “المسافة الاجتماعية” أي “المسافة اللّمسية “، وفقا ًلشرط قانون فيروس كورونا “إذا لُمست تموت”.
وتردف، نلاحظ حالياً من خلال العمل العيادي زيادة في الاكتئاب وأنواع القلق، التي ربّما قد تكون متتالية مع المواقف الصعبة التي مروا بها أثناء الحجر، القلق، التّوتر، الأرق، الحزن والخوف من الموت الذي عانى منه البعض والمواقف المؤلمة للغاية التي مر بها النّاس.
وتضيف، سبّب الحجر المنزلي التّخلي عن كافة رغباتنا، لنعيش بشكل مختلف. من الواضح أنّ هذا تسبّب في حدوث تشوّهات في البنية النّفسية، كما مسار الحداد، فهي عملية طبيعية. موضحة، أن نعيش الحجر، هو بطريقة ما، حداد على مسار حياة معينة، يتطلّب عملية تحدث في مراحل عدة هي: الصدمة والانكار، الشعور بالذنب، الغضب، الاكتئاب والألم، إعادة الأنباء، التقبل.
وتشرح البرّاج، كورونا أعادت إحياء صدمة الموت، مثلاً: امرأة في سن الستين عبّرت عن خوفها من الوحدة بعد الموت، قائلة: إن توفيت في زمن الكورونا فحتماً سأخسر الاحتفال الجنائزي أثناء عبوري من الحياة إلى الآخرة.
ارتفاع منسوب العنف الأسري
إلى ذلك، ارتفعت حالات العنف الأسري من خلال التّبليغ عن العنف المباشر، في ظل تدابير الحجر المنزلي ومنع التّجول، الأمر الذي أدّى إلى إلزام المواطن البقاء في منزله ساعات طويلة ما تسبّب في أزمات ماليّة واقتصاديّة زادت بدورها الخلافات الأسريّة، وبذلك لم تعد المنازل آمنة للنّساء، بحسب ليلى عواضة المحامية والنّاشطة الحقوقيّة في جمعيّة كفى.
في المقابل، يؤكّد مصدر أمني أنّ الأوضاع الاقتصادية الصّعبة زادت حالات العنف المنزلي، لافتاً إلى تضاعف نسبة التّبليغ على الخط السّاخن المخصّص من القوى الأمنيّة بنسبة 100% في شهر آذار.
ناديا الحلاق