سعيد فخر الدين… شهيد الاستقلال الوحيد يُغَيّب عن أدوار البطولة
تاريخ الاستقلال اللّبناني كما لم يُروَ في كتب التاريخ
معركة الاستقلال في لبنان وإن هي بدأت في 11 تشرين الثاني عندما أفاق اللّبنانيون على أنباء اعتقال السلطات الفرنسية خلال اللّيل كلًا من رئيس الجمهورية المنتخب حديثًا (21 أيلول) بشارة الخوري، رئيس الحكومة رياض الصلح، والوزراء كميل شمعون، عادل عسيران، سليم تقلا، ونائب طرابلس عبد الحميد كرامي، وسوقهم مكبّلين إلى مكان مجهول في حراسة عسكرية فرنسية مشدّدة ليتبيّن لاحقًا أنّهم في قلعة راشيا الوادي، إلّا أنّ الانطلاقة الحقيقية كانت في 8 تشرين الثاني عندما انعقد مجلس النواب بصورة عاجلة للنظر في تعديل الدستور الموضوع عام 1926، والاقتراع على مشروع أعدّه مجلس الوزراء قبل ثلاثة أيام، مضمونه إلغاء جميع المواد المتعلقة بالانتداب الفرنسي وصلاحيات المفوّض السامي وكلّ ما يتّصل به، وجعل اللّغة العربية وحدها لغة لبنان الرسمية.
جاء ذلك تنفيذًا لما كان قد ورد في البيان الوزاري الذي نالت الحكومة على أساسه الثقة في 26 أيلول، تلك الجلسة انتهت بالموافقة على تعديل الدستور وإعلان الاستقلال اللّبناني واستعادة السيادة الوطنية، بعد أن كانت مناقشات حادّة قد دارت، انسحب على أثرها النائب إميل إده.
في الساعة الثامنة من صباح يوم الخميس 11 تشرين الثاني وجّه رئيس مجلس النوّاب صبري حماده دعوة إلى أعضاء المجلس لعقد جلسة مستعجلة، إلّا أنّ الجنود الفرنسيين كانوا قد طوّقوا مبنى البرلمان لمنع النوّاب من الاجتماع.
ومع ذلك استطاع عدد من النوّاب، رغم الحصار العسكري والمظاهرات التي كانت اندلعت في بيروت، ثم في باقي المدن اللّبنانية، الدخول إلى المبنى فبلغ عددهم سبعة بمن فيهم رئيس المجلس، وهم: سعدي المنلا، هنري فرعون، صائب سلام، رشيد بيضون، محمد الفضل ومارون كنعان.
اتخذ النوّاب الحاضرون بعد مشاورات هاتفية مع النواب الذين تعذّر عليهم الوصول، قرارًا يؤكد المواقف السابقة في تعديل الدستور واعتبار الانتداب الفرنسي لاغياً.. كما رفعوا مذكرة شديدة اللّهجة وقّعها النواب الحاضرون، وخليل تقي الدين – أمين السر العام لمجلس النواب- وعمدوا إلى تأمين إرسالها إلى حكومات الولايات المتحدة، بريطانيا وروسيا كما إلى ملوك ورؤساء وحكومات البلاد العربية. كذلك تقرّر الاستمرار في اعتبار الحكم القائم وحده شرعيًا ورفض رئاسة السيد إميل إدّه بعد أن كان عينه المفوض السامي.
ومن أبرز ما تقرّر في هذا الاجتماع تغيير العلم اللّبناني الذي كان قائمًا في ظل الانتداب، وهو العلم الفرنسي أزرق – أبيض – أحمر مع أرزة في الوسط، وجرى الاتفاق على علم جديد هو المعروف والمعتمد حاليًا. وقد تمّ رسم العلم الجديد على ورقة نزعت من دفتر مدرسي ووقع عليها النواب الحاضرون. بينما كان المجلس منعقداً، بنوابه السبعة، اقتحمت قوّة فرنسية على رأسها ضابط برتبة نقيب وهو شاهر لسلاحه قاعة الاجتماع وطلب إلى الرئيس والنواب مغادرة القاعة، ومبنى البرلمان، وإلّا يجرى إخراجهم بالقوة.
توجّه النواب وسط بحر صاخب من اللّبنانيين المتظاهرين إلى منزل رئيس الجمهورية بشارة خوري في منطقة القنطاري (المعتقل في راشيا) فيما كان نواب آخرون قد توجهوا إلى هناك، فبلغ عدد النواب 17 نائبًا، إلّا أنّ إطلاق الجنود الفرنسيين النار على القصر الجمهوري جعلهم يتلاقون في اليوم التالي، 12 تشرين الثاني، في منزل النائب صائب سلام، حيث قرروا ما يلي:
– اعتبار الدستور قائمًا.
– منح الثقة للحكومة المؤقتة التي كانت تواجدت في بشامون، والمؤلفة من الوزيرين الباقيين خارج الاعتقال: الأمير مجيد أرسلان وحبيب أبو شهلا.
– اعتبار الحكومة التي يرأسها إميل إده باطلة وكل قرار أو قانون أو مرسوم أو تدبير تتخذه باطلًا لا يعتد به
– تفويض الحكومة تفويضًا تامًا مطلقًا باتخاذ جميع التدابير، والقيام بجميع المساعي والمخابرات في سبيل عودة الحياة الدستورية والإفراج عن المعتقلين.
وكتب المؤرّخ اللّبناني لبيب نصيف نقلًا عن المربي أنيس أبو رافع: “بشامون، عين عنوب، سرحمول، تحولت إلى ثكنات، في كل بيت جنود متطوعون، وفي كل بيت مطبخ ومخبز، يقطعون اللّقمة عن أفواه أطفالهم ليطعموا متطوعي الحرس الوطني، وتحوّل خارج البيوت إلى مرابض ومتاريس، وراء كل جدار، تحت كل شباك، بجانب كل صخرة، خلف كل زيتونة وسنديانة، عيون ساهرة لرجال نذروا أنفسهم لحرية وطنهم واستقلاله”.
بين هؤلاء كان سعيد فخر الدين، شهيد الاستقلال الذي لا يذكره إلّا قلّة قليلة هو الذي وقف خلف متراسه قاتل واستبسل وقاوم حتى النفس الأخير.
صباح الخامس عشر من تشرين الثاني تقدّمت مصفحات الجيش الفرنسي بجنودها السنغاليين من ناحية سوق الغرب – عيتات. تصدّى لها الحرس الوطني مرّة، مرّتان، الهجوم الثالث جرى صباح يوم الثلثاء 16 تشرين الثاني، يومها تقدّمت المصفحات كثيراً.
خرج سعيد فخر الدين، بعد أن كان أطلق من بارودته الرصاص، من وراء متراسه ليقذف المصفحة المتقدمة بقنبلة يدوية، إلّا أنّ رصاص المعتدين كان أسرع من اندفاعه وجأشه، فلقد انهال عليه من رشاش ضابط فرنسي كان يحاول الالتفاف من الخلف، “لقد رأيته بأم عيني” يقول السيد منير تقي الدين في كتابه “ولادة استقلال”، “يخاطر بنفسه ويقوم بأعمال يعجز اللّسان عن وصفها”.
وفي عام 1969 صرّح الزعيم كمال جنبلاط عن الشهيد فخر الدين: “لما التبجح ؟ لقد سقط شهيد واحد في معركة استقلال لبنان عام 1943 اسمه سعيد فخر الدين وهو سوري قومي اجتماعي.”
بتاريخ 2 تموز 1946 صدر المرسوم رقم 9377 بمنح الشهيد سعيد فخر الدين “ميدالية الجهاد الوطني”، بعد أن كان أقر بتاريخ 20 تشرين الثاني سنة 1945 القانون الذي نص على إنشاء “ميدالية الجهاد الوطني” ومنحها للأشخاص الذين جاهدوا في سبيل لبنان أثناء حوادث 11 – 22 تشرين الثاني 1943، وفيما هي منحت الدولة الميدالية إلى عدة شخصيات لبنانية أبرزها: رئيس الجمهورية بشارة الخوري، وزوجته السيدة لور، صبري حمادة، رياض الصلح، الأمير مجيد أرسلان، جميل لحود وغيرهم، إلّا أنّها حجبتها عن أبطال الاستقلال في قلعة راشيا جبران جريج وأنيس فاخوري وزكريا اللبابيدي كذلك عن أديب البعيني.
نصّ كتاب التاريخ اللّبناني عن الاستقلال الذي صدّرته قلعة راشيا لكنّه لم يذكر أبطاله الحقيقيين، هذا الاستقلال ارتوى من عروق اللّبنانيين المؤمنين بهذا الوطن ولكنّه لا شك ليس بالاستقلال التام، الاستقلال لم يكن سوى صيغة للانتقال من الانتداب الفرنسي والوصاية الغربية المعلنة الى الصيغة اللّبنانية الطائفية والوصاية الغربية ضمنها.
ربى حداد