العداء المجتمعي اللبناني لإسرائيل يُسقِط فرضية السلام
الطائفية والمؤامرة الاقتصادية أسلحة خارجية لفرض التطبيع
منذ الإعلان عن اتفاق الإطار للتفاوض على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية للبنان مع فلسطين المحتلة، حتى انطلقت موجة شكوك بأن تؤدي هذه المفاوضات إلى معاهدة سلام مع إسرائيل في ضوء مشروع التطبيع العربي الجاري حالياً مع إسرائيل.
وواكبت هذه الشكوك حملة إعلامية قادتها فضائيات محلية وخليجية وغربية، تُظّهِر بأنّ الهدف الرئيسي والنهائي للمفاوضات اللبنانية – الإسرائيلية هو التوصل إلى اتفاقية سلام. وتزامن ذلك أيضاً مع سعي من الجهات نفسها لخلق حالة عامة لبنانية عربية لتقبّل السلام مع إسرائيل؛ وتربط من جهة ما بين الإنهيارات الاقتصادية وسياسات المقاومة ودول الممانعة للمشروع الإسرائيلي، وتسوّق من جهة أخرى للتطبيع كخيار وحيد لخلاص شعوب تلك الدول من الأزمات المالية والاقتصادية.
إلى ذلك، طرحت بعض الأصوات في المجتمع اللبناني سلسلة أسئلة ودعوات تحمل في طياتها مبرّرات للجنوح نحو السلام. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تساءل هؤلاء ضمن نقاشات على منابر إعلامية وحلقات حوارية ونقاشات عامة: لماذا لا يعقد لبنان سلاماً مع إسرائيل، وينتهي من أزماته فيما أنظمة عربية عدة ذات مقومات اقتصادية هائلة انخرطت فيه؟ وهل يمكن للبنان الصمود في ظل الحصار الأميركي – الخليجي – الأوروبي؟ وهل يكون التطبيع باب الإنفراج المالي – الاقتصادي للأزمات في لبنان؟
حقيقة المزاج الشعبي
كيف هو المزاج الشعبي حيال هذه القضية؟ وهل فعلاً نحن أمام تحوّل سيما في الفئات العمرية الشبابية التي ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية كبيرة وضعت مستقبلها في خطرٍ كبير ودفعتها إلى الهجرة كباب وحيد للإفلات من الموت المحتم؟
وينبُت سؤال آخر من كومة الأسئلة السالفة: ما تأثير الأزمة الاقتصادية المالية على التحوّل الفكري والنفسي في المزاج العام في البيئات الشعبية والطائفية المختلفة، ومن ضمنها بيئة المقاومة حيال العداء لإسرائيل؟ هذا السؤال يستدرج سؤالاً آخراً: هل كانت الأزمة التي انطلقت شرارتها من انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 وما تبعها من أحداث حتى تفجير مرفأ بيروت، أحداثاً متلاحقة منظمة مفتعلة للوصول إلى مرحلة إحداث شرخ وخلل في المجتمع اللبناني لإعداده لمرحلة التطبيع؟
عتريسي: محاولات كي الوعي
لا شكّ أنّ الواقع الاقتصادي – المالي- الاجتماعي الصعب الذي يواجهه لبنان خلق “حالة شعبية”؛ ويرفض عميد كلية العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتور طلال عتريسي تسميتها “رأي عام أو مزاج شعبي”. فهذه الأزمة التي كوت المواطن جعلته على استعداد نفسي للتطبيع مع أشرس عدو للبنان وللعرب والمسلمين في سبيل لقمة عيش أو فرصة عمل أو خفض سعر صرف الدولار. وبحسب عتريسي، فقد تكفّل الإعلام الغربي والعربي بالعمل على كي الوعي ومحو الذاكرة الجمعية للمجتمع، أزاء كل الجرائم والحروب والمجازر واغتصاب الأرض والعرض المقدسات التي ارتكبها العدو الإسرائيلي في لبنان وفلسطين ودول أخرى.
الأسباب الحقيقية للأزمة
وفي موازاة هذا المخطط بحسب ما أشار عتريسي لـ”أحوال” يأتي تحميل حزب الله والمقاومة كفكر ونهج وعقيدة وطنية، مسؤولية الأزمات الاقتصادية ليتكامل الربط بين فعل المقاومة والإنهيار الاقتصادي. علماً أنّ أسباب الأزمات في مكان آخر بحسب عتريسي، تبدأ من التسوية السياسية الإقليمية الدولية التي جاءت بالرئيس رفيق الحريري إلى سدّة رئاسة الحكومة وما رافقها من سياسات اقتصادية ومالية ونقدية، أنتجت الفساد السياسي والمالي، الذي تراكم واستمر بأشكال أخرى على مرّ الحكومات المتعاقبة حتى اليوم.
ولا يمكن إغفال الحصار الأميركي الأوروبي الخليجي المفروض على لبنان، وإقفال “حنفية الأموال” منذ العام 2016 حتى الآن، مع سياسة العقوبات ودعم الإرهاب والاعتداءات الإسرائيلية، وافتعال الأحداث الأمنية وتحريك الشارع والعرقلة الداخلية للعملية السياسية والنهوض الاقتصادي بالبلد.
حماده: التراجع العقلي في المجتمع
في المقابل، عزا المفكر والمؤرخ والباحث السياسي الدكتور حسن حماده أسباب نشوء هذه الظاهرة إلى حالة التراجع في القدرات العقلية والإنحراف الذهني لدى المواطن اللبناني، وسقوط المفاهيم والثقافة الاجتماعية والسياسية الناجمة عن الكوارث الاقتصادية والغرق في مستنقع الطوائف والمذاهب،مّما يجعل الشباب اللبناني يتحرك بناءً على أسس طائفية مذهبية لا مطلبية ما يدفعه في نهاية المطاف إلى السقوط بحضن فكرة التطبيع مع العدو، والتماثل بالحالة التطبيعية العربية المتشكلة من دون النظر إلى معنى التطبيع ونتائجه.
ولفت حماده لـ”أحوال” إلى المؤامرة المستمرة على لبنان التي بدأت بضرب مرتكزات اقتصاده كالزراعة والصناعة، لتطويعه اجتماعياً ومالياً وسياسياً، ثم ضرب القطاع المصرفي بإشعال الشارع في 17 تشرين 2019 تحت شعار “الثورة المطلبية” لتعويم القطاع المصرفي الإسرائيلي واستقطاب الودائع والإستثمارات الخليجية، ثم التدمير المفتعل لمرفأ بيروت لصالح تفرّد مرفأ حيفا في التجارة في المنطقة.
واعتبر حماده أنّ تحميل البعض المقاومة مسؤولية الأزمات جزء من تراجع القدرات العقيلة للمواطن وسياسة التضليل الإعلامي وغياب أحزاب نهضوية علمانية تصنع الوعي وتجابه عناصر المؤامرة، إضافة إلى اختفاء الطوائف لصالح المعتقلات والمقابر الطائفية والمذهبية.
إنحياز الشعارات بفعل الأزمات
لم تكن نظرة المجتمع والمكوّنات اللبنانية موحدة تجاه إسرائيل منذ الحرب الأهلية اللبنانية حتى الآن. ففي حين انحازت أحزاب اليمين المسيحي، كالكتائب والقوات إلى المعسكر الإسرائيلي بشكل علني، كانت الضفة الأخرى تجمع أغلب الأحزاب والقوى الوطنية والاسلامية اللبنانية والفلسطينية وتحمل شعار الموت ولا للتسليم لإسرائيل والتطبيع معها. لكن التحوّل المستجد ولو كان محدوداً والذي ظهر في مختلف البيئات، هو انحياز الشعارات بفعل الأزمات إلى “إسرائيل أفضل من الطبقة السياسية الفاسدة”، وتفضيل السلام مع عدوٍ خارجي مع فك الحصار الاقتصادي على الذل والموت البطيء على أرض الوطن. شعارٌ ظهرت تجلياته بخروج أصوات الترحيب على مواقع التواصل الاجتماعي بالعقوبات الأميركية على الوزراء علي حسن خليل ويوسف فنيانوس وجبران باسيل بمعزل عن ضلوعهم في قضايا فساد أم لا.
ويخشى حماده في هذا السياق من أن تتسع دائرة هذه الأصوات لتشكّل حالة أو ظاهرة تتقولب بمؤسسات سياسية أو مدنية وإعلامية تنشط في الحياة السياسية وفي مختلف الطوائف وأحد مؤشراتها السقوط إلى ما دون التشكّل الاجتماعي.
أصوات محقة ولكن..
فالأصوات التي تئِن من وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية محقة بحسب عتريسي، لكن المفاضلة بين الطبقة السياسية وإسرائيل أو تحميل المقاومة المسؤولية مجافٍ للمنطق. فسبب الأزمة يعود إلى الإدارة السياسية المالية الخاطئة فيما كانت المقاومة تسطّر الإنجازات والإنتصارات الميدانية.
ويسأل: لماذا خرجت “الثورة” من الشارع رغم وصول الدولار إلى 10 آلاف ليرة؟ ولماذا لم تدعم حكومة الرئيس دياب ولم تدعُ إلى إقالة حاكم المصرف المركزي؟
ويرى عتريسي أنّ خلق ظاهرة لبنانية تدعو للسلام حاجة خليجية لتبرير التطبيع الخليجي الإسرائيلي. ويدعو إلى احتواء هذه الحالات على قلّتها، لكي لا تُستغل وتتحول رأياً عاماً معادياً للمقاومة ومتقبلاً لإسرائيل، وذلك من خلال تحليل نتائج اتفاقيات السلام التي وقعتها بعض الدولة ووضعتها أمام الرأي العام؟
فهل خرجت الدول التي وقّعت معاهدات سلام مع العدو من أزماتها وارتقت إلى مصافي الدول المتطورة؟ أم لازالت غارقة في وحول أزماتها؟ كالأردن ومصر التي يكفي الإشارة إلى أنّها تحوي الآن مليون مواطن ينامون في المقابر. وهل التطبيع والتخلّي عن مقومات القوة وعلى رأسها المقاومة طمعاً بالبحبوحة المالية الاقتصادية كافياً لانتهاء الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية؟
قزي: التطبيع غير مطروح
الوزير السابق سجعان قزي يشير لـ”أحوال” إلى أنّ “التطبيع الإسرائيلي غير مطروح، لا على المستوى السياسي الرسمي ولا على المستويات الشعبية”؛ موضحاً أنّ “أنين الشعب تحت وطأة الأزمات الاقتصادية وانتفاضته على السلطة الفاسدة لا يعني اندفاعه نحو التطبيع غير الوارد حتى داخل البيئة المسيحية”. فالتطبيع أو السلام بحسب قزي، يحتاج إلى قرار وطني جامع غير متوفر الآن، وإلى ظروف غير مؤاتية وإن انخرطت أنظمة عربية في هذا المشروع؛ لكن للبنان ظروفه المختلفة فضلاً عن الملفات العالقة مع إسرائيل كالحقوق الاقتصادية في البحر والأرض المحتلة وقضية اللاجئين الفلسطينيين وصفقة القرن.
وتبقى الإشارة إلى أنّ الأصوات المنادية بالتطبيع على اختلاف الأسباب التي تقدمها، لا يمكن أن تشكّل حالة عامة تحجز مكانة لها في المجتمع اللبناني رغم وجودها كأصوات متفرقة ومنتشرة في بيئات ومستويات مختلفة. فحالة العداء اللبنانية لإسرائيل لها عارمة ولها خصوصيتها ومحفورة في الوعي الجمعي. فتكاد لا تخلو عائلة لبنانية إلا ودفعت أثماناً بشرية ومادية في الحروب الإسرائيلية العسكرية على لبنان، ويكفي الإستدلال بالعدد الهزيل الذي لبى دعوة بعض مجموعات الحراك المدني في ساحة الشهداء تحت شعار تطبيق القرار 1559، ما يعيد بالذاكرة إلى ثمانينات القرن الماضي حيث فشل الأميركيون والإسرائيليون بالتعاون مع رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل بفرض اتفاق 17 أيار، رغم انقسام الدولة اللبنانية حينها والأوضاع الأمنية والاقتصادية الصعبة، وموازين القوى التي كانت لصالح المحور الأميركي. فكيف الآن وقد حققت المقاومة سلسلة انتصارات وأصبحت جزءاً من المعادلة الإقليمية؟
محمد حمية