عائلة ضحية قارب الموت في طرابلس محمد الحصني تروي لـ ” أحوال” تفاصيل المأساة
لن تستيقظ طرابلس من كابوسها الطويل. صحيح أن الإنسان مجبول على النسيان، لكن في الحالة الطرابلسية يظهر أن ولاّدة الكوابيس حيّة لا تموت. عمرها من عمر الحرمان والفقر، الذي يجعل شباناً ثم عائلات بأكملها نهباً للموت بشتى الطرق. تارة بعصبية طائفية ومناطقية، وطوراً بقتال يتخم بيوت المشغلين بالمال والجاه السياسي، وأخيراً، بهجرة غير شرعية تدفع الطرابلسيين إلى رمي أنفسهم في البحر.
هذا ما نعاينه بوضوح يدمي القلب، عندما نرى ونسمع كل ما صدر وسيصدر من كلام عن الناجين من عبّارة الموت أو أهالي من ماتوا أو فُقِدوا.
تشييع يليه آخر، ودموع لا تجف، أما الأصعب، فشكوى بلا صدى وتعطش للإنتقام من المجرم الحقيقي الذي ترك جموعاً من الناس نهباً لليأس، حتى باتوا غير مبالين بالموت.
محمد الحصني كان واحداً من هؤلاء. شيّعته طرابلس في جو من الحزن والإستياء. لكن، للمفارقة اللبنانية التي تفاقم حزننا، فإن الرصاص الذي نثر هباء في الهواء خلال التشييع يقدر بمئات الدولارات، فيما المحمول على النعش أمام مطلقي النار ذهب إلى موته لعدم امتلاكه فلساً.
تلقف الموت محمد ابن الرابعة والعشرين. احتواه سريعاً في عرض البحر. أراحه من رحلة العذابات الطويلة والمتعبة في اللحاق بالأمل المفقود.
“كان يقول، نحنا هيك هيك ميتين”، ينقل عنه ابن عمه حسن الحصني في حديث ل”أحوال”، ويضيف أن محمد وهو أصغر أفراد عائلته المؤلفة من أربع بنات وثلاثة شبان: “عاكسه الحظ”.
يشرح حسن الحصني ما يعطينا فكرة وافية عن الجو الذي عاش فيه محمد، حيث يقول: “والده كان يعمل نجار موبيليا ووضعه المادي صعب، لذلك كان على محمد أن يعمل لمساعدة أهله وأخواته”، مشيراً إلى أن الفقيد الذي عثر على جثته أمام شاطىء السعديات، “اشتغل فترة سائق أجرة لكنه أوقف لعدم حيازته الأوراق القانونية علماً أن تكلفتها 5 ملايين وهذا المبلغ لا يتوفر لديه حتماً”.
كان الأمل لا يزال يدغدغ قلب شاب في مقتبل العمر، فسافر للعمل في قطر، إلا أن تداعيات انتشار فيروس “كورونا” حطم أمله فعاد محمد إلى لبنان خائباً.
تضاعف شعوره باليأس دفعه إلى التفكير بالهجرة. أما كيف فلا يهم. البحر الذي أمامه كأنه كان يهمس له، “لم يخبر أحداً أنه مهاجر في البحر. كل ما قاله أنه ذاهب للتخييم مع رفاقه”، يشرح حسن الحصني ما جرى خلال الأيام الأخيرة قبل الكارثة، ويضيف: “ما حدا منا حس على شي. وضب ثياب خاصة للتخييم وخرج”، لكنه لم يعد.
حتى الشابان اللذين رافقاه في “رحلة التخييم” باتا في عداد المفقودين. أخذ الجميع طعامهم معهم، لكنهم أجبروا في النهاية على ترك كل شيء بما فيها ملابسهم لأن القارب لا يتسع لحمولة كبيرة، كما يبين لنا حسن الحصني، مضيفاً أن المهربين وأحدهم موظف مصرفي سابق “اخذوا من محمد 5 مليون مقابل الهجرة. جمّع محمد المبلغ من هون ومن هون”.
يحمل الناجون معهم حقداً مضاعفاً على السلطة السياسية في لبنان. يتذكرون الأسباب التي دفعتهم لمعانقة الموت، وبعضهم لن يكف عن هذا الفعل حتى يبلغ العالم الجديد عن طريق قبرص. حقد وغضب سيبدأ بالوسيط ثم المهربين ليصل إلى كل مسؤول عن ترك عائلات وأرواح أمام مصائر مأساوية.
تماماً كما هي الحال مع عائلة محمد الحصني. “عائلة منهارة نفسياً بالكامل، وخاصة والدته المريضة التي تعيش على الأدوية”. لكن في المحصلة جرى ما جرى. ذلك أن “محمد كان يفكر بواحد من احتمالين لا ثالث لهما. كان يقول: إما أن أعيش وإما أن أموت. إما أن نصل إلى قبرص ومنها إلى أوروبا وإما نموت. فنحن هنا ميتين، ميتين”.
نانسي رزوق