مجتمع
أخر الأخبار

ماريانا فضوليان شقيقة إحدى ضحايا انفجار المرفأ لـ ” أحوال”: أختي ليست شهيدة!

لم تختَر غايا فضوليان أن تصبَح شهيدةً. لم تختر الموت في بيروت وهي التي عشقت الحياة فيها طوال سنوات عمرها ال 29. لم تختَر أن تُدفَن في تراب بلدها الذي كانت مصرّةً على العودة اليه بعد سنوات دراستها في إيطاليا وسويسرا لتزرع فيه بذور شغفها بالفن وحجر الأساس لمعرض “ليتيسيا غاليري” الذي شاركت بتأسيسه عام2017 إلى جانب والدتها آنيتا. لو أن الأقدار لم تكن بهذه القسوة ولو أن الزمن توقّف قبل الساعة السادسة وسبع دقائق من بعد ظهر الرابع من آب لكانت
غايا تنهي الآن تصميماً كانت بدأت بهندسته أو ربما تتعاقد مع فنان عالمي جديد لعرض أعماله في لبنان أو حتى تنقذ حيواناً متروكاً لم يكن قلبها الصغير يحتمل يوماً أن يتركه من دون مساعدة. ربما كانت لتفعل كلّ ذلك وأكثر، وعلى وجهها تلك الابتسامة السخيّة نفسها التي كانت توزّعها على كل من حولها. ولكن الأقدار لم ترأف وعقارب الساعة لم تتوقّف!


شقيقة غايا ماريانا فضوليان تؤكّد لـ “أحوال” أنها ترفض اعتبار أختها شهيدةً وتقول: “الشهيد هو من يختار قضيةً يناضل من أجلها رغم معرفته أنه قد يخسر حياته من أجلها ولكن الضحية هو من يسقط نتيجة إهمال وفساد وإجرام وأختي هي ضحية، ضحية الانفجار، ضحية الإهمال والتقصير وضحية هذا البلد بمنظومته المتهالكة من أوّلها الى آخرها”.
في شقة في الطابق العاشر في شارع شارل مالك في الأشرفية كانت غايا تلفّ شعرها البلّل بمنشفة وتتبادل أطراف الحديث مع والدتها آنيتا الساعة السادسة وستّ دقائق من بعد ظهر الرابع من آب. دقيقةٌ ودوّى انفجار مرفأ بيروت. ركضت غايا ووالدتها كلّ منهما في اتجاه. الأم نجت ولكن ضغط الانفجار الهائل أصاب جسد الشابّة العشرينية التي سقطت أرضاً وفقدت وعيها.

في تلك الأثناء تلقّت ماريانا اتصالاً مرعباً من والدتها تخبرها فيه أن أختها سقطت في الانفجار وانها تحتضر وبحاجة لنقلها الى المستشفى فوراً. غادرت ماريانا مكان عملها في شارع مونو وهرعت نحو المنزل ولم تكن تصدّق حجم الدمار الذي كانت تراه على الطرقات حيث الركام كان يملأ كل الشوارع ومئات الجرحى يحاولون الوصول الى المستشفيات سيراً على الاقدام.
تروي ماريانا انها بصعوبة بالغة تمكّنت أخيراً من الوصول الى المبنى الذي تقطنه لتجده شبه مدمّر بالكامل. وتقول: “التقيتُ أوّلاً بالناطور وطلبت منه أن يساعدني لأنزل أختي من الطابق العاشر لأنني عرفت انني لن أستطيع حملها بمفردي ولكنه كان في حالة صدمة تامّة حتى أنه لم يعرفني رغم انه يعمل في هذا المبنى منذ سنوات”.


وتضيف: “رحت أصرخ بأعلى صوتي ساعدوني أختي تحتضر. واستجاب لندائي شابان لكنهما ما لبثا أن تخليا عني. وعندما وجدت غايا كانت ما زالت تتنفس ووجهها بتجاه الأرض. في هذه الاثناء وصل شبّان من أصدقائنا وساعدوني لإنزالها الى الطابق الأرضي. المصاعد كانت معطّلة والركام كان يملأ السلالم حتى ان برّاداً قذفه الانفجار من إحدى الشقق كان يعترض طريقنا في أحد الطوابق… وهنا بدأ مشوار معاناتنا لمحاولة إيجاد سيّارة تنقلها الى المستشفى. وعندما لم يساعدني أحدٌ قمت بإيقاف سيارة بطريقة عشوائية وصعدنا فيها لنتجه نحو مستشفى الروم الذي كان الأقرب الينا ولكن الصدمة كانت بانه عندما وجدناه مدمّراً ومتضرراً بشكل كبير”.
وتتابع: “رحت أصرخ بشكل هستيري ساعدوني ساعدوني أختي تحتضر. وكنت في هذه الأثناء أحاول انعاشها بالتنفّس الاصطناعي لأحرص على بقائها على قيد الحياة ولكن الأمور تدهورت فحالة الفوضى كانت هائلة وحصلت أخطاء كثيرة في محاولة انعاشها من قبل الممرضين الموجودين تنبّهت اليها بحكم عملي كطبيبة بيطرية ومعرفتي بأساسيات الإسعافات الأولية وقد قمت بتعليق المصل لها بنفسي. بعدها قالوا لي انهم سينقلوها الى غرفة العمليات ولكن الغرفة كانت مدمّرة بالكامل ولم يكن من مجال لاجراء أي عملية جراحية فيها. فدخلتها عنوةً وأخرجتها ورحنا ننقلها من مستشفى الى مستشفى ولكن عندما وصلنا الى المستشفى الرابع كانت بدأت تبصق الدم ولاحقاً فارقت الحياة”.


تشجب ماريانا بقوّة عدم وجود خطّة طوارئ للتعامل مع الكوارث الإنسانية الكبرى كما حصل في انفجار المرفأ وتقول ” لو تم اسعافها في الوقت المناسب لكانت نجت من الموت ولكننا فقدنا وقتاً ثميناً في اللحظات الحاسمة. ما من بنى تحتيّة في البلد وفي المستشفيات للتعامل مع هكذا كوارث مع العلم ان لبنان هو على خط زلازل ومعروف أنه معرّض في أي وقت لكارثة ولكن بالرغم من ذلك لم تضع الدولة خطة واضحة للتعامل مع هكذا نكبة في حال حدوثها. الضياع والفوضى كانا هما السائدان ولولاهما لكان بالإمكان انقاذ الكثير من الأرواح البريئة التي سقطت في الانفجار” .
وتقول: ” لا يستحق أي من الجرحى الذين فاق عددهم الستة آلاف وخمس مئة جريح أو أي من الشهداء الذين سقطوا في انفجار المرفأ هذا المصير الأسود وبالتأكيد أختي غايا لم تكن تستحق هذا المصير بل كانت تستحق ان تعيش وأن ترى أحلامها التي تعبت كثيراً من أجلها تتحقق. غايا كانت مليئة بالشغف والإنسانية وهي لم تكن حنونةً فقط على أصدقائها وأقاربها بل لم تكن تحتمل فكرة أن يكون هناك أي كائن حي يعاني وكانت تنشط بمساعدة الحيوانات وتتبنّى ما استطاعت منها. وعلى الصعيد العملي تخصصت في مجال التصميم وتحديداً الـ product design وكانت شغوفةً بالفنون ولم تشأ أن تمضي حياتها في إيطاليا التي ارتادت جامعاتها بل كان لديها إصرار على العودة والعمل في البلد وكانت مديرة غاليري “ليتيسيا ” في بيروت التي أسستها بالشراكة مع والدتي وأرادتها منصّة لكل الفنانين الشباب لعرض أعمالهم وسعت من خلالها لتكريس مكانة بلدها على خارطة الفن المعاصر ولكن القدر كان قاسياً جداً وخطفها قبل ان تتمكن من تحقيق ما كانت تصبو اليه”.


وتكشف ان غايا كانت تعمل قبل وفاتها على خط خاص بها في التصميم وان العائلة ستكمل هذا العمل من بعد رحيلها حتى يبصر النور على أن تذهب عائدات بيع تصميم غايا لكل المتضررين من انفجار المرفأ ولتبقى أعمالها شاهدةً على ابداع شابة لبنانية عشقت بلدها وسكبت كل شغفها ومعرفتها فيه وزرعت في نفوس كل من عرفها صورةً وابتسامةً وذكرى من روحها الجميلة ستبقى دائماً في الذاكرة.

رنا أسطيح

رنا أسطيح

صحافية لبنانية، كتبت في شؤون الفن والمجتمع والثقافة في عدد من الصحف اللبنانية والعربية. قدّمت برامج إذاعية وقامت بإعداد العديد من البرامج الفنية والاجتماعية في أكثر من محطة تلفزيونية.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى