زيارة البابا للعراق: بيت روحاني بملفات سياسية كثيرة
إيران وسوريا ولبنان والتفاهمات المأمولة في منطقة الشرق الأوسط
لا شيء يفوق “مشهدية” شجاعة قدوم للحبر الأعظم إلى بلاد الرافدين، أرض أقدم الحضارات وأعرقها، سوى مشاعر “الغبطة العراقية” واجتهاد العراقيين الحثيث للتعالي عن معاناتهم الكثيفة والمهولة من العنف والدم والدمار والفشل السياسي.
هذه “الغبطة” التي تشي بفرح إنجاز شيء ما أمام العالم، هي أكثر ما يبعث على تقدير الزيارة التاريخية، التي أفضت بصورتها الكلّية بأنّ هذا البلد العربي المشرقي العظيم لا يزال قادرًا بحكمة أهله على تقديم جرعات الاطمئنان والاحتواء لكل مكوّنات العالم، وأنّ بلاد الرافدين تبقى أهل لأهلها ما إن تُقطع أيدي العابثين.
الزيارة التي شغلت الاهتمام العالمي، أعادت للأذهان ما تمثله أرض الحضارات من غنى إنساني مشرقي ديني لاهوتي وعلمي وتاريخي. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأرض، التي تعاقبت عليها حضارات وممالك وإمبراطوريات، وسكنتها كل الأطياف الدينية والعرقية والإثنية، لم تكن لتتهشّم لولا الأحداث المتعاقبة على مدى عقدين من الزمن بقيادة “اليانكيز” وتوابعه.
العراقيون نجحوا في احتضان الضيف الكبير، رغم كلّ المآسي وحالة اللااستقرار، والخوف المستوطن في نفوسهم من إعادة انبعاث وحش التطرّف في لحظة سياسية غير متوازنة بين الاتفاقات الدولية والتفاهمات على حدّ أدنى من تعايش المصالح وبين قرع طبول الحرب.
بين فرحة العراقيين على اختلاف أديانهم وطوائفهم وأعراقهم التي تصل إلى عشرين في بلاد الرافدين، بإظهار صورة وطنهم أنّه بلد طبيعي وآمن، وفرحة المسيحيين من أبنائه باستقبال الأب الروحي، فيما يجاهدون للبقاء والتمسّك بأرضهم، ثمّة رسائل سياسية وملفات تتخطى المعنى الروحاني إلى التحوّلات الواقعية التي تُرسم في المنطقة.
لقاء القمة
القمة الاستثنائية بين الحبر الأعظم والمرجع التهليل الكبير للإعلام الغربي في قراءة لقاء رأس الكنيسة الكاثوليكية مع المرجع الديني الأكبر السيد علي السيستاني، الرجل الأكثر تأثيرًا على العراقيين وصاحب الفتوى التي حرّكت المقاومات الشعبية لمحاربة داعش والحفاظ على الحضور المسيحي. هذا التهليل حمل في طيّاته الخطط السياسية الاستراتيجية لسلوك طريق الاتفاق أو التفاهم.
لقاء “القمة” بين البابا والسيّد السيستاني، الذي بحث في رفع ظلم الشعوب وكرامة الإنسان، لم يغب عنه المظلوم الأول في التاريخ الحديث، الشعب الفلسطيني، الذي يجسّد محنة البشر ودرب آلامه. ولم يغب عنه الشعب السوري المقهور، الذي أُدخل في آتون الحرب الكونية.
وإن كان البابا أراد إيصال رسالة حول “التآخي الإنساني” إلّا أنّ توظيف عواصم القرار يأخذها إلى مكان آخر ونحو إيران تحديدًا.
ساحة التفاهم!
الموقع الجيوسياسي لإيران، يُقلق الغرب الذي يريد إخراج العراق من محور طهران- دمشق وتحويله إلى ساحة للحوار مع طهران وليس ساحة صراع. هذا ما تغرق به تحليلات مراكز الرصد والأبحاث الأميركية. وفي مشروع “تعزيز التآخي” يستبطن أهل الدولة العميقة وأصحاب المشاريع الغربية، من خلالها مشروع رمي سلاح المقاومة العراقية عبر الحوار.
التفاهم المأمول لتهدئة الجبهات في الشرق الأوسط، الذي يشمل إلى جانب الاتفاق النووي الإيراني، الوضع في سوريا وسلاح حزب الله، يعدو إلى محاولة إخراج العراق من كونه ساحة صراع بين محور المقاومة والعراقيين المقاومين للمشروع الأميركي من جهة، وبين الولايات المتحدة والعراقيين المؤيدين لبقاء الاحتلال الأميركي من جديد بعد خروج وعودة بحجة محاربة تنظيم داعش الذي صُنِعَ في أميركا باعتراف مسؤولين أميركيين.
قد تكون هذه هي دوافع التوظيف الغربية الخفية لزيارة البابا إلى العراق، باعتبارها تجعل من طهران أكثر قابلية للقاء مع واشنطن، بفقدانها للعلاقة الاستراتيجية مع العراق.
أما المسيحيون العراقيون والسوريون وأولئك في فلسطين ولبنان والأردن الذين راقبوا الزيارة، يستنزفهم قلقهم على وجودهم في زحمة مشاريع التخريب. هذه المشاريع لا يمكن أن تزول إلّا بهزيمتها عبر بناء الأوطان وترسيخ سياسات المواطنة المدنية الحقيقية التي تؤمن العدالة لجميع أبنائها.
عودة المسيحيين إلى أرضهم تأتي بموازاة هواجس عيش المواطنين من الطوائف الأخرى وتأمين العيش الكريم لهم.
رسائل للمرشد!
من همّ الأقليات الدينية إلى معاني الزيارة وتحوّلاتها المأمولة، يحاول العابثون بإثارة النعرات الطائفية، تقديم تفسيرات تتلاءم ومشاريعهم التقسيمية. ويتخذون من هذه الزيارة منصة لإطلاق سهامهم باتجاه إيران.. وتنزع نحو اعتبار الزيارة رسالة لإيران ولوقف “عبثها” في العراق.
لكنّ الرد على التحليلات جاء خلال اتصال هاتفي بين الرئيس الإيراني، حسن روحاني، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، خلال اليوم الثاني لزيارة الحبر الأعظم. وفي الاتصال بارك الرئيس روحاني زيارة قداسة البابا للعراق، كما أشاد بالجهود الحكومية العراقية التي أثمرت عن نجاح هذه الزيارة التاريخية.
كما اتفق الطرفان على دعوة جميع الأطراف الفاعلة في المنطقة إلى تعزيز الهدوء، واتخاذ مسار الحكمة والعقلانية في التعامل مع الأزمات والتحديات. وعبّر كلّ من الكاظمي وروحاني عن “تطابق وجهات النظر”، باعتبار “الحوار هو السبيل الوحيد والأمثل لحلّ الصراعات والأزمات في المنطقة”، وفق ما أفاد بيان صادر عن رئيس الوزراء العراقي.
البحث عن الاعتدال
البابا فرنسيس يكرّر، في خطبه المتعدّدة خلال الزيارة وما قبلها، مقولة ضرورة إيجاد الاعتدال. هذا الاعتدال الذي يحاول العراق بكلّ جهد لإبرازه في بلد أنهكه الشقاق. السلطة العراقية الحالية تريد تسويق هذه الفكرة عن نفسها، هذا ما يردّده باستمرار رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي يُشدّد على رفض تسخير بلاده لتكون ساحة للصراعات. وأيضًا، رئيس الجمهورية برهم صالح، الذي خطب لدى استقباله رأس الكنيسة الكاثوليكية في القصر الجمهوري في بغداد، عن التعايش والاعتدال والتنوّع العراقي.
التحوّلات الديموغرافية، التي طرأت على العراق لم تكن لتكون لولا تدخّل الأميركيين في بلاد ما بين النهرين. واستنباط داعش ومتفرعاتها التي أنهكت النسيج المتنوّع، وتسبّبت في هجرة عشرات الآلاف، شكّل المسيحيون الجزء الأكبر منهم. كان هناك حوالي 1.5 مليون مسيحي في العراق قبل العام 2003، وبحلول منتصف العام 2019، انخفض هذا الرقم إلى أقل من 150 ألف شخص بحسب بعض التقديرات.
البابا في العراق، في بغداد والنجف وأور ونينوى وأربيل، ثمة جراح يتمّ استذكارها وآلام تداوى روحيًا، ولكن ثمة واقع أنّ من الروحانيات يتمّ العمل على استخراج واقع جيوسياسي جديد، ستتبيّن مظاهره تباعًا.
رانيا برو