منوعات

رصد قطعان من الذئاب على الحدود اللبنانية السورية

هل تستعيد الطبيعة توازنها؟

غالباً ما تطغى الصورة النمطية حيال الكائنات البرية، وفق مفاهيم وأفكار تجافي الواقع وتنأى بعيداً عن العلم، وإلى الآن لم نتخطَّ الموروثات الاجتماعية في نطاق ما تناهى إلينا من مرويَّات أخطر ما فيها أنها تعزِّز الجهل وتُصوِّر قتل حيوان بري ضرباً من “البطولة”؛ وشقَّ علينا أن نفهم مقولة الفيلسوف الإيرلندي الساخر جورج برنارد شو: “إذا قتل الإنسان نمراً قالوا هذه رياضة، وإذا قتل النمر إنساناً قالوا هذه وحشية”؛ هنا يتبدّى الحد الفاصل بين الجريمة والقيم الإنسانية، حتى أننا لا نزال نستخدم مفردات ومصطلحات من قبيل “رياضة” الصيد، فأيّ رياضة تلك التي تبيح القتل وتتغنَّى به وتعتبره “مأثرة”؟

وغالباً أيضاً ما تُسوّق “الميديا” ما يعزِّز ثقافة الجهل، ولا تزال إلى الآن تطالعنا أخبار عن قتل كائن بري، في مخالفة صريحة للقوانين، والتي تستثني فقط الخنازير البرية كونها تكاثرت على نحو بات يهدد النظم الإيكولوجية في الطبيعة، ولا من يوضح أهمية هذا الكائن أو ذاك. وبالرغم من تنامي الوعي نسبياً حيال الحيوانات البرية المهددة بالإنقراض في لبنان، ما يزال كثيرون يمعنون في رصدها وقتلها، ولم يطرح أحد سؤالا حول ما إذا كانت هذه الحيوانات قد وجدت بالصدفة أم هي تمثل حلقة من نظام بيئي متكامل نعيش بين ظهرانيه؟

 

عودة الذئاب

رصد مواطنون أعداداً من الذئاب في قطعان متفرقة على الحدود اللبنانية – السورية، وهذا مؤشر إيجابي على استعادة الطبيعة لتوازنها، وهذا ما أكده لـ “أحوال”  الأكاديمي المتخصص في علم الاقتصاد حسان عياش، مشيراً إلى أنّ “هوايتي تصوير الحياة البرية”، وقال: “وثقت وجود العديد من الحيوانات البرية، ومنها الدب السوري والذي ظهر للمرة الأولى منذ ستين عاما ولمرات عدة، والقط البري (الوشق)، ومجموعة من الغزلان، بالإضافة إلى قطعان من الذئاب في مناطق شاسعة على الحدود اللبنانية – السورية، وهي مناطق لا يؤمها إلاّ عدد قليل من الناس لوضعها الخاص عسكرياً، ما سمح لهذه الحيوانات بالعيش بسلام والتكاثر بعيدا عن البشر”.

وأضاف عياش: “تمكنت من الإمساك باثنين من الذئاب بواسطة الشباك، وعدت وأطلقتها في مـا بعد”، وعن إمكانية الإمساك بها بهدف التجارة، قال: “من النادر أن يتم اصطياد الذئاب عبر الأفخاخ بسبب خصوصية المنطقة الحدودية من جهة، كما أن الطلب عليها قليل من جهة ثانية، كونها نوع من الحيوانات البرية التي لا تعيش في الأسر إلا في ظروف اسثنائية صعب توفرها بالنسبة لهواة”.

 

الحيوانات تخاف الإنسان

لا بدّ من الإشارة في هذا المجال إلى أن الحيوانات هذه تؤثر البقاء والعيش في بيئتها الطبيعية، أما تلك التي نراها في الحدائق العامة وعلى حلبة السيرك تكون خاضعة لضغوط كبيرة، ولهذا السبب قد لا تتوانى عن قتل وافتراس المشرفين عليها، علماً أنها في الطبيعة، أي في مداها الحيوي ما إن تلمح البشر حتى تلوذ بالفرار، ولا تهاجم إلا دفاعاً عن النفس وفي ظروف نادرة جداً، أي عندما تشعر أن بيئتها مهددة بسبب تجريف الغابات وظروف أخرى، بينما ما يرسخ في الأذهان هو أن أسداً قتل مروّضه، ولا نأخذ في الإعتبار أنّ هذا الكائن مداه الحيوي يصل إلى مئات الكيلومترات فيما هو يعيش في قفص لا تتعدى مساحته أمتارا معدودات.

والحيوانات البرية في الأسر لا تكون هي نفسها فيما لو كانت في الطبيعة، ففي الأسر تتغير طبائع الحيوانات مع تغيُّر بيئتها وبذلك تتغير تصرفاتها، فتكون تحت ضغط شديد ودائم وهي لا تعرف التصرف، خلافاً لما هو عليه الأمر في البرّية، حيث المجال يكون متاحاً أمامها للهرب والابتعاد عن الناس، وهذه مسألة مهمة، وعلى الناس ألا يظنوا بأنّ الحيوان الموجود في الأسر هو كالحيوان الموجود في الطبيعة، والحيوان البري في الأسر تكون خياراته محدودة، أي أنه لا يمكنه الإبتعاد عن الناس فتكون تصرفاته مختلفة تماماً ويعبّر عن نفسه بأي طريقة، لأنّ لديه خوفاً من الإنسان ولذلك يكون تصرفه عدوانياً، أما في البرية فيكون تصرفه مختلفاً وقادراً على الهرب وان ينأى بنفسه عن الخطر الذي يسببه له الإنسان.

وهذا ما أكد لـ “أحوال” الخبير في الحياة البرية الأستاذ المحاضر في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية البروفسور منير أبي سعيد، قائلاً: “الذئب لا يشكّل خطراً على الإنسان، لأنّه من الحيوانات التي تقتات على اللحوم، وهذه الحيوانات اللاحمة تخاف من الإنسان”.

اندثار الذئاب

وقال أبي سعيد: “ثمة مناطق كنا قد بدأنا العمل فيها وهي تمثل المجال الحيوي للذئب، لكن واجهتنا مشكلة تمويل الدراسة”، ورأى أنّ “المشكلة الأهم تظل متمثلة في كيفية إقناع المواطنين بأهمية الذئاب للمحافظة عليها”.

وحذّر أبي سعيد من تبعات اندثار الذئاب، وقال: “ثمة مشكلة في لبنان اليوم تتمثل في تكاثر الخنازير البرية بشكل كبير، وقد بدأ المزارعون يشكون من أنّ الخنازير البرية تعبث بأراضيهم الزراعية، حتى أن بعضهم آثر منذ سنوات عدم زراعتها والإهتمام بها، ولو أنّ الناس حموا الذئب والضبع لما تكاثرت الخنازير البرية على هذا النحو الكبير، خصوصاً إذا علمنا أنّ الذئب والضبع هما عدوا الخنزير البري”، منوهاً إلى أن “الضبع لا يصطاد أساساً ويقتات على الجيف فحسب، لكنه يقصد أوجار الخنازير ويقوم بخنقها، خلافاً للذئب الذي يطارد الخنزير ويفترسه”.

وشدد أبي سعيد على أنّ “الذئب مهم جداً في التوازن البيئي، ولم يكن موجودا في المناطق الوسطى إلا في محمية جبل موسى، وهي منطقة محصنة جداً ليس في كونها محمية وحسب، وإنما بسبب طبيعتها الوعرة، وهي أيضا من أغنى المناطق في لبنان بالحيوانات البرية ولا سيما اللبونة منها”.

 

جمعية حماية الطبيعة في لبنان

من جهته، قال الخبير في الحياة البرية ومدير مشروع في جمعية حماية الطبيعة في لبنان SPNL، ماهر أسطة لـ “أحوال” إنّ “وجود الذئاب نادر للغاية، وكل مرة يتم الحديث أو اصطياد أحد الحيوانات يتضح أنه ابن آوى Jackal وليس ذئبا أو أحد الكلاب الشاردة”.

وأشار أسطة إلى أنّ “الذئب موجود في لبنان لكن بندرة، لا سيما في جرود بعلبك والضنية ورأس بعلبك”، ورأى أنّ “ثمة تهديدات تطاول الحيوانات البرية بشكل عام ومنها الذئاب”، وأوضح أنّ “شق الطرقات في الجرود ووجود السيارات المجهزة زاد المخاطر على الحيوانات البرية وتسبب في قتل الكثير منها، مثل الضباع وابن آوى والثعالب والذئاب، وما أثَّر أيضا على تعداد هذه الحيوانات وضع السموم للكلاب الضالة، ما أدى إلى تسميم الكثير من الحيوانات وهذا هو الخطر الأكبر الذي يتهددها، كما أن هناك خطراً متمثلا في صيادي الخنازير، كون الذئب يقتات على الخنازير، وهو في رأس الهرم الغذائي، ووجوده وأعداده تساهم في تقليل أعداد هذه الحيوانات التي تعيث فساداً في الأراضي الزراعية؛ ويجد هؤلاء الصيادون وبسبب قلة الوعي أنّ الذئب يمثل تهديداً لهوايتهم، والحقيقة أنّ أعداد الخنازير كبيرة جداً وتكاثرها أيضا إلى ازدياد بسبب ندرة المفترس من ذئاب وضباع”.

ولفت أسطة إلى أنّ “هناك توصيات من قبل الخبير في الثدييات والأستاذ في الجامعة اللبنانية منير أبي سعيد لجهة اصطياد الخنازير طوال العام وليس في موسم الصيد فحسب، وهناك أمر هام آخر، فكلما ازدادت أعداد الذئاب قلّت أعداد الثعالب وابن آوى، وهو الأمر الذي نعاني منهم لجهة كثرة أعدادها في بعض المناطق، ومهاجمتها الماشية واقترابها من المناطق السكنية بسبب النفايات ووجود الغذاء، وبسبب الجوع قد تهاجم الدجاج والماشية، فوجود الذئب أساسي في المنظومة الغذائية البرية والتوازن البيئي الطبيعي”.

الذئب اللبناني

ما رصده عياش على الحدود اللبنانية – السورية، أكده أيضا أبي سعيد، قائلاً: “الذئاب ما تزال موجودة بقطعان صغيرة هناك”، وقبل سنوات عدة عثر مواطنون في احدى القرى البقاعية النائية على وجر ذئاب، فأحضروا كمية من الديناميت وقاموا بتفجير الوجر فنفقت الذئاب في مـا عدا ثلاثة جراء، أحضرها أبو سعيد إلى مركز التعرف على الحياة البرية والمحافظة عليها في مدينة عاليه ورعاها، وكان يدخل إلى خيمتها ويطعمها، وكانت تبدي الحذر إذا ما اقترب منها شخص آخر وتبدو في حالة رعب وتحاول الاختباء.

وعن الذئب اللبناني، قال أبي سعيد: “موجود في منطقة الشرق الأوسط، وهو يختلف على سبيل المثال عن الذئب الاميركي الذي يزن نحو 75 كيلوغراماً، فيما الذئب الذي يعيش في لبنان يصل وزنه إلى ما بين 35 و40 كيلوغراماً، بينما الذئب الاميركي حجمه أكبر وأضخم، أما الذئب العربي فحجمه أصغر من الذئب في لبنان”.

وعن مهاجمة الذئاب لبعض القرى في موسم الثلوج، قال ابو سعيد: “الذئب لا يهاجم القرى، لكن في موسم الثلوج يضطر للبحث عن فريسة لا أكثر ولا أقل، وأدعو المواطنين في القرى الجردية النائية إلى تحصين حظائر حيواناتهم لحمايتها”.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أنور عقل ضو

صحافي في جريدة "السفير" منذ العام 1984 إلى حين توقفها عن الصدور. عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية في لبنان والعالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى