الحريري: متريثاً.. عائداً أم مستقيلاً من السياسة؟
شهدت الحياة السياسية في لبنان، منذ ما قبل الإستقلال، ظهور العديد من الأحزاب والجمعيات السياسية وصولاً إلى التيارات (التي بانت طلائعها في العقود الثلاثة الأخيرة)، ولكنها ارتبطت جميعها بأسماء شخصيات، ولم يستطع أي منها تجسيد مفهوم الحزب المتعارف عليه في الدول الديمقراطية العريقة، وإنما كانت ترجمة لتوجهات عائلية أو طائفية او مذهبية، الأمر الذي جعلها تتقوقع على نفسها ومحيطها لتنتهي عند غياب المؤسس أو على الأقل ليضمحل دورها إلى حدود الذوبان، باستثناء قلّة قليلة لا تتعدّى أصابع اليد الواحدة كانت قد انطلقت بمفهوم حزبي نقي، ولكنّها ما لبثت أن انحدرت إلى وحول السياسة اللبنانية.
فـ “تيار المستقبل” الذي أسّسه الرئيس الشهيد رفيق الحريري مطلع التسعينات وبعد “هبوط” إتفاق الطائف على اللبنانيين وما حمله من تعديلات في جوهر الحكم في لبنان، حاول أن يكون صبغة متجدّدة في الحياة السياسية اللبنانية من خلال استقطابه لوجوه وتجمّعات من مختلف الطوائف والمذاهب المتعدّدة في البلد الصغير، ولكنّه بعد ثلاثين عاماً تحوّل حزباً عائلياً في رأس هرميته، وبات ممثلاً للمذهب السني في الدولة اللبنانية.
وعلى عكس أحزاب عدّة في لبنان استطاعت الإستمرار في الوقوف على قدميها رغم العواصف والإنقسامات التي ضربتها، فإن “التيار الأزرق” كما رغب مؤسّسه في صبغ هذا اللون عليه طالما أن “السما زرقا”، أي صافية ولا تعكّرها بالنسبة له أية غيوم سوداء، بدأ في الجيل الثاني على تأسيسه يعاني من صدمات قاسية تهدد وجوده، البعض يعيدها إلى غياب المؤسس بصورة مفاجئة (استشهاده في الرابع عشر من شباط عام 2005 وبعد عقد ونيف فقط على التأسيس)، والبعض الآخر ردها إلى ضعف شخصية الوريث الإبن سعد الحريري قياساً إلى شخصية والده، الأمر الذي دفع بالمراقبين إلى طرح التساؤلات العديدة ومنها: هل سيتفتت المستقبل بين العائلات والأحزاب؟ المستقبل على سكة التشظي.. فمن هو المستفيد؟ وكيف سيدفع المستقبل ثمن زلات الحريري؟
الاسئلة كثيرة ومتعددة حول مستقبل “المستقبل”، وكل ذلك ارتبط بالاتجاه الذي سينحوه سعد الحريري عائداً أم متريثاً أم مستقيلاً من السياسة اللبنانية.
في الوضع الحالي للطائفة السنية، لن يستطيع أحد وراثة سعد الحريري نظراً لأن الوالد المؤسس قد عمل بقوة على تحجيم ممثلي العائلات السنية، إبتداء من آل سلام في بيروت إلى آل كرامي في طرابلس مروراً بآل الصلح بين بيروت وصيدا. وعندما ظهرت قوى لديها القدرات المالية على ذلك، آمثال آل ميقاتي والصفدي في عاصمة الشمال، وآل مخزومي في بيروت وآل مراد في البقاع، بان جلياً أن معظمها ليس لديه الرغبة في ذلك لجهة اعتماد الأسلوب المالي للحريري الأب، وبعضها انتظر وينتظر قوس قزح من الخارج؛ فظل آل الحريري متربعين على الكرسي الثالثة بدون منازع، وكانوا يمنحونها بركتهم في هذا الإتجاه أو ذاك، على قاعدة أنهم هم من يتحكم بمربط الفرس.
والجميع يتذكر بعناية كيف عمل الرئيس المؤسس على بناء تياره المستقبلي، حيث بنى هرميته على استقطاب منتسبيه عبر عدة مسارب أبرزها:
– الإنبهار بشخصية رفيق الحريري وما حققه خلال عمله ونشاطه في المملكة العربية السعودية، مضيفاً إليها سخاءه غير المسبوق على الساحة اللبنانية.
– استقطاب عناصر حزبية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وضعت مبادئها جانباً بعدما أُسقط من يدها إمكانية وصولها عبر التراتبيات الحزبية إلى مواقع متقدمة.
– متربحون يهمهم الحصول على الأموال ويخططون لتحقيق مكاسب سياسية إذا ما توفرت.
ولكن كل هذه التركيبة وجدت نفسها بعد عقدين من الزمن وبعدما بدأت المصائب تتهاوى على رأس الوريث، أنه يجب عليها التفتيش عن “باب رزق” آخر. وفي هذا السياق، يقتنع المراقبون أنه عندما “ينفخت دف” المستقبل بإعتكاف الرئيس سعد الحريري أو ما يتصل بذلك، سيتشظّى “المستقبليون” باتجاه عائلاتهم وطوائفهم ومذاهبهم.
وفي هذا السياق، يرى أحد المشايخ الشماليين الملتزمين والمسيسين بقوة لـ”أحوال”، أن “الرئيس سعد الحريري ما زال الأقوى على الساحة السنية، وأخبار اعتزاله السياسة قد تكون من باب الدلع أو التشويق، لأنه وبالرغم من فقدانه للدعم المالي الخارجي، فإن بعض الينابيع الاقتصادية لا زالت تمده في لبنان نظراً لتجذره في الإدارة اللبنانية عبر جيش من الموظفين في مؤسسات الدولة خلال ثلاثين سنة من قبض “التيار الأزرق” على زمام السلطة، وكممثل متفرد للطائفة السنية، إضافة إلى تحالفات سياسية متجذرة وإن تبدلت في بعض الأحيان”.
ويضيف الشيخ الذي تحفّظ عن ذكر إسمه: “كل هذا يمنح سعد تفوقًا كبيراً على أخيه بهاء الذي فشل في أول تجربة سياسية له عبر المنتديات، ثم أنتج تشكيلاً هجيناً دعاه “سوا” رافعًا شعارات الثورة والتغيير، وهو بعيد عنها كل البعد، في حين أن الشخصيات السنية التي يدعمها حتى الساعة لا تملك القوة الكافية لتحقيق طموحه السياسي”.
وبات واضحاً لدى معظم المراقبين أنه في حال إنهيار “الهيكل المستقبلي”، فإن إعادة إحيائه ستكون مستحيلة وتتطلب أموالاً ضخمة وبحجم ما كان ينفقه المؤسس وأكثر، مع منظومة دعم إقليمية غير مسبوقة وغير متوفرة، وهو الأمر الذي لا يلوح في الأفق على الأقل حتى الإنتخابات النيابية المقبلة.
مرسال الترس