ملفات كثيرة وشائكة لا تزال عالقة لدى القضاء اللبناني، الذي تقع عليه مسؤولية إحقاق الحق وتبيان الخيط الأسود من الأبيض. ويعيش اللبنانيون تخبطاً دائماً مفاده: لماذا دائماً هناك من يشكو من القضاء، وعلى من تقع المسؤولية في الفترة الأخيرة؟ وفي ظلّ بروز أكثر من ملف شائك وخطير مطلوب من القضاء مواجهته، كيف يحسم القضاء أمره في ظل تسلّط بعض رجال السياسة لمنعه من القيام بمهامه كما يجب؟ هل الفساد هو فساد سياسي قبل أن يكون أي شيء أخر؟ هذه التساؤلات والهموم التي تشغل بال كل مواطن، حملناها لمدّعي عام التمييز السابق القاضي “حاتم ماضي”، حيث تناولنا معه ملفين أساسيين هما: ملف التشكيلات القضائية وملف الوضع الإقتصادي والنقدي في لبنان.
مخالفةواضحة للقانون
يبقى ملف التشكيلات القضائية، والذي لم يصبح نافذاً، بعد بسبب عدم توقيع رئيس الجمهورية عليه من أهم المواضيع المطروحة على الساحة القضائية حالياً، نظراً لما لهذه التشكيلات من أهمية في تحريك عجلة القضاء، ووضع سكة العدالة على مسارها الصحيح. حول هذا الموضوع يقول مدعي عام التمييز السابق القاضي حاتم ماضي في حديث لـ “أحوال”: “كما هو معروف جرى إعداد مشروع التشكيلات القضائية من قبل المجلس الأعلى للقضاء الذي أحاله بعد الإنتهاء منه إلى وزيرة العدل للتوقيع عليه، ولكن وزيرة العدل قامت بإعادة الملف الى المجلس الأعلى للقضاء مع جملة ملاحظات وضعتها عليه، وهذا حق يمنحها إياه القانون. إلا أنّ مجلس القضاء الأعلى عاد وأصرّ على مشروعه وبإجماع أعضائه البالغ عددهم عشرة. وبحسب القانون، فإنّ المشروع يصبح نافذأ فوراً في حال نال سبع أصوات من أصل عشرة… فكيف إذاً تم التصويت عليه بالإجماع؟
ويضيف حاتم ماضي، بعد رفض مجلس القضاء الأعلى الأخذ بملاحظات وزيرة العدل وإصراره على ملف التشكيلات كما وضعها هو، لجأت الوزيرة إلى تجزئة مشروع التشكيلات الى جزئين: الأول يتعلّق بالقضاة المدنيين الذين يعملون في المحاكم العدلية، والثاني يتعلّق بالقضاة المدنيين الذين يعملون في المحكمة العسكرية، “وهذا أمر يحدث للمرة الأولى في تاريخ التشكيلات القضائية في لبنان”. ويتابع، استندت وزيرة العدل في قرارها على أنّه كان يترتّب على مجلس القضاء الأعلى أن يأخذ برأي وزيرة الدفاع قبل إنجاز لملف التشكيلات، كون هناك ضباط في الجيش سيُعيّنون قضاة في المحكمة العسكرية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل ما أقدمت علية وزيرة العدل مبرّراً قانوياً؟ يجيب حاتم ماضي، بحسب قانون العقوبات العسكري، فإنّ مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية هو قاضِ مدنيِ، أمّا المحامون العامون، والذين يُطلق عليهم اسم “مفوّض الحكومة المعاون”، فيمكن أن يكونوا قضاة مدنيين أو يتم اختيارهم من بين ضباط الجيش. والأمر نفسه ينطبق على قضاة التحقيق في المحكمة العسكرية، ولكن المادة الخامسة من قانون التنظيم القضائي تشير الى أنّه لا علاقة لوزير الدفاع بموضوع التشكيلات القضائية لا من قريب ولا من بعيد. “مما يعني أنّ ما أقدمت علية وزيرة العدل مخالفاً للقانون”.
ويضيف ماضي، كان يمكن لوزيرة الدفاع أن تُعلم مجلس القضاء الأعلى برغبتها في تعييين ضباط في الجيش كقضاة في المحكمة العسكرية قبل إصدار المجلس للتشكيلات القضائية إلا أنّها لم تفعل ذلك. وبعد إقدامها على تجزئة المرسوم الى مرسومين قامت وزيرة العدل بإرسال المرسومين موقّعين من قبلها الى رئيس الحكومة ليوقّع عليهما بدوره قبل رفعهما الى رئيس الجمهورية ليوقّع هو أيضا، ولكن تسوية ما جرت قبل أن يوقّع رئيس الحكومة جرى بموجبها جمع المرسومين في مرسوم واحد. ويتابع ماضي، تمّ إرسال هذا المرسوم لرئيس الجمهورية للتوقيع عليه بعد أن كان قد وقّعه كل من رئيس الحكومة ووزيرة العدل ووزير المالية، إلا أنّ ما حدث هو أنّ رئيس الجمهورية لم يوقّع على المرسوم بحجة توفّر ملاحظات لديه، وهو بذلك ارتكب مخالفة قانونية. “كان عليه الإلتزام بقرار مجلس القضاء الأعلى، والذي حسم موضوع التشكيلات بمجرد التصويت عليها ونيلها جميع أصوات أعضاء المجلس.”
هذا ما كان يحب أن يحدث، يقول مدّعي عام التمييز، “ولكن في لبنان ليس القانون وحده هو سيد الموقف وصاحب الكلمة الفصل في كل الأمور التي تخصة. فهناك معايير وحسابات أخرى تدخل بقوة على الخط وتسير بموازاة القانون لا بل أحيانا تتقدم عليه كثيرة.”
ويأسف حاتم ماضي لهذا الواقع، “نحن للأسف مازلنا في لبنان رعايا طوائف فكما في كل شيء في لبنان، فإنّ للقضاء أيضاً حصته من التدخلات السياسية.” ويشرح القاضي، في لبنان ست محافظات، ممّا يعني أنّ هناك مدعياً عاماً يجب أن يُعيّن في كل محافظة. وهذا الأمر لا يمكن أن يتم مع الأسف من دون مراعاة التوازنات الطائفية.
ويضيف حاتم ماضي أنّ مصدر الحسابات السياسية والطائفية ليس مجلس القضاء الأعلى، فالمجلس الأعلى للقضاء عندما يقوم بدراسة ملف التشكيلات القضائية يكون اهتمامه محصوراً بأهلية المرشحين على الصعيدين المهني والأخلاقي فقط لاغير. أمّا التدخل السياسي، يقول القاضي، فهو يأتي من السلطة التنفيذية. ” وزير العدل هو عضو في السلطة التنفيذية ويعبّر بطبيعة الحال عن مناح سياسي معين.” ويتابع، صحيح أنّه من حق وزير العدل أن يطلب تعيين هذا القاضي أو ذاك في مناصب معينة، ولكن ذلك يجب أن يتم بالإتفاق مع مجلس القضاء الأعلى. وإذا لم يحصل إتفاق فانّ الكلمة الفصل تبقى لمجلس القضاء الأعلى.
المصارف وحاكم البنك المركزي شركاء في انهيار الاقتصاد
منذ أكثر من عام ونصف العام والوضع النقدي والإقتصادي هو الشغل الشاغل للّبنانيين، حيث تجري الأمور لغير صالح وضعهم الإقتصادي والمعيشي. كيف تبدّلت الأمور بسرعة وأصبح لبنان على شفير إنهيار مالي مريع؟ هذا الأمر يشرحه حاتم ماضي: “بحسب قانون النقد والتسليف، فإنّه ممنوع على مصرف لبنان إقراض الدولة، إلاّ ضمن سقف معين وضمن شروط معينة، لكن الذي حدث هو أنّ الدولة اللبنانية راحت تكثر في طلباتها من المصرف المركزي، وبدل أن يتصرّف حاكم مصرف لبنان بمسؤولية وبحسب الصلاحيات المعطاة له، والتي تسمح له بمنح الدولة المزيد من الإستدانة من المصرف المركزي، توجّه نحو تزويدها بالمزيد من الأموال، إلى أن وصلنا الى مرحلة نفد فيها الإحتياطي لدى مصرف لبنان. فكان أن لجأ الحاكم الى خطوة أكثر تعقيدأ وأكثر خطورة وهي أنه قام بعقد اتفاق مع المصارف الخاصة لإقراض الدولة من إيدعات المواطنيين، وذلك مقابل منافع مالية معينة تستفيد منها المصارف. ويتابع ماضي، عندما بلغت الإستدانة حداً باتت تشكل خطرأ جدياً على الوضع المصرفي، نتيجة عدم قيام الدولة بسداد ما عليها من ديون للمصارف الخاصة، أقدمت تلك المصارف على تهريب أموالها الى الخارج، وتبعها في ذلك بعض كبار رجال السياسة في لبنان، الذين استفادوا من قانون السرية المصرفية في تهريب أموالهم الى الخارج. “لذلك نرى أنّ البنوك لم تعد تعطي المودعين ما يطلبون من أموالهم، بل أصبحت تفرض عليهم سقفاً معيناً للسحوبات، وذلك خلافأ للقانون الذي يلزم المصارف بأن تكون جاهزة لإعطاء المودعين أموالهم غب الطلب وبالعملة التي تم ايداع هذه الأموال فيها”. ويردف ماضي، ما حدث أنّ البنوك وجدت نفسها أمام ظرف لا تحسد عليه؛ “إن قامت بتطبيق القانون بحذافيره، فإنّها ستستفيق غداً لتجد نفسها أمام إنهيار كبير للقطاع المصرفي لبنان، نتيجة الضغط على السحوبات بدافع القلق والخوف وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي.” ولكن بالرغم من كل ذلك، يقول ماضي: إنّ أموال المودعين في لبنان مضمونة بموجب قانون ضمان الودائع الذي تم إقراره بعد قضية بنك انترا، والذي يلزم مصرف لبنان بتسديد أموال المودعين لدى البنوك المتعثرة، ولكن الذي حدث مؤخراً في لبنان فاق القانون في تداعياته وفرض نوعاً أخر من التعامل، وأصبح الخوف من إنهيار كامل للقطاع المصرفي دفعة واحدة وهو الذي يحكم قانون ضمان الودائع في ظل أزمة مالية كبيرة يعيشها المصرف المركزي.
من يتحمّل مسؤولية ماجرى؟ برأي حاتم ماضي، هناك ثلاث أطراف تتحمل مسؤولية ما جرى وهذه الأطراف لا يمكن أن تعمل بمعزل عن بعضها البعض؛ وهي حاكم البنك المركزي، والبنوك، والدولة اللبنانية ممثلة بوازرة المالية. فالدولة اللبنانية ممثلة بالبنك المركزي من خلال مفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان، والذي تقع عليه مسؤولية أن يعرف كل ما يدور في مصرف لبنان، وأن يقوم بإبلاغ وزارة المال به. كما أنّ من مهامه أيضا إبلاغ الحاكم المركزي بكل ما تريده الدولة من مصرف لبنان، وهناك أيضا المصارف التي تتحمل أيضا قسطا كبيراً من مسؤولية الوضع الكارثي الذي نحن فيه الآن؛ فهي تعرف بالطبع أسماء المودعين الذين قاموا بتهريب أموالهم الى الخارج، ومن هنا يمكن تفسير إصرار البعض من أهل السلطة على عدم محاسبة الحاكم المركزي، بأنّه يعكس خوفاً من انكشاف أعمال مشبوهة قد يكونون متورطين بها الى جانب أطراف اخرى.
نبيل المقدم